بقلم - فتحي بن لزرق
كانت الساعة تقارب الرابعة عصرا حينما وصلنا نقطة أمنية على الأطراف الشمالية لمدينة “المكلا” في طريقنا إلى وسطها.
أوقفنا شاب في العشرينات من عمره يرتدي هنداما عسكريا منسقا للخضوع للتفتيش.
دس رأسه إلى داخل السيارة وقال :” بطائقكم؟
قلت مازحا :” انا من ذمار .
رد ضاحكا:” نحن لانسأل من أين أنت لكن نسأل عن وثائقك فقط كن من حيثما تريد..
بعد دقائق كنا في طريقنا إلى وسط المدينة في زيارة أثارت الكثير من النقاش ولا ادري لماذا.
لثلاثة أيام لاحقة قلت للكثير من القراء إنني سأكتب عن زيارتي إلى المكلا .
في الطريق إلى المكلا كنت قد مررت بمدينة سيئون هناك حيث تتوسد بقايا الدولة التي افتقدها اليمنيون ذات يوم ..
وانا أجول بمدينة سيئون وجدت الكثير من ملامح اليمن المفقود لاتزال حاضرة فالمؤسسات كما هي والنظافة في أوج حضورها والحضور للمؤسسات الرسمية ولا شيء غيرها.
وفي المكلا لاتبدو فصول القصة مغايرة أو مختلفة فالباحثون عن الدولة كُثر والمغردون خارج النص قلة.
قال لي احد الحضارم في الختام ما الذي ستقوله عن زيارتك إلى المكلا؟ .. ستلمع وجوه الفاسدين وستٌغيًب الحقيقة عن الشعب وستكتب أشياء غير واقعية، نحن الادرى بواقعنا وهو سيء للغاية.
قلت له :” لاتكن متشائما فالحقيقة لاتاتي دفعة واحدة والأشياء كذلك وماتريدون في حضرموت لن يأتي دفعة واحد وانتم تسيرون ومن يسير سيصل ..
في مكتبه الصغير بمكتب المحافظة التقيت “البحسني” رجل في العقد السادس من عمره ،في ثلاثة لقاءات منفصلة قال لي انه زار “عدن” كثيرا وتمنى ولايزال ان يتغير حالها.
قال :” كنت في عدن في الأيام الاولى عقب تحريرها ووجهنا الكثير من النصائح لكن لم يُستمع لنا.
بدأ واضحا ان الرجل اتخذ خطا عكسيا لكل العثرات الحاصلة في عدن.
قال الرجل :” انا لا أريدك ان تكتب إلا عما رأيته لدينا.
قلت له وهذا ماسيحدث ..
ثمة شيء يجب الاتفاق حوله ان الحياة في حضرموت ليست على النحو الأكثر اكتمالا لكنها مقارنة بعدن وكل المحافظات اليمنية تبدو الافضل فعلا وقولا.
رفع الحضارم عقب أشهر قليلة من تحرير “المكلا” شعار العمل وفق المتاح والممكن .
نظر الحضارم حولهم يمنة ويسرة .
سوق طويلة من الشعارات المختلفة والقضايا المتعددة والصراعات الطويلة واختاروا جميعا النأي بالنفس أولا والعمل على الأرض ثانيا .
حلقت “حضرموت” عاليا .
قال الحضارم للجميع نحن أصدقائكم ولكننا قبل كل شيء أصدقاء هذه الأرض ومضت المكلا صوب محاولة النهوض في ظل هذا الواقع الصعب .
“محمد باشنيني” شاب الحراك الأول التقيته على ضفاف خور المكلا .
أمسكت بيده وسرنا على طول الخور وتجولنا بشوارع المدينة .
سألته :” هل يعيش الناس هنا سواسية ؟
هز رأسه وقال :” يتعايش الناس هنا سواسية وباب المحافظة مفتوح للجميع المهم “لاتخطئى”.
في حضرموت وحدها لايستطيع الحضرمي ان يستقوي على احد إلا بقوة “القانون”.
ذات السؤال سألته للبحسني بحضور عدد من الأشخاص .
كان السؤال غريبا في الطرح لكن “عدن” ووضعها حتم علينا ان نضع الكثير من الأسئلة الغير “انسانية” اصلا .
قلت للبحسني:” هل تصادرون أملاك الشماليين هنا ؟ الديكم الكثير من البسط ؟ أتملكون مقاومة وأبو فلان ؟ هل الدخول بالبطاقة هنا..؟ أترحبون بالجميع.
ابتسم “البحسني” وقال :” لم نأخذ حق احد ولن نسمح ونرحب بالجميع باستثناء إسرائيل لقد تعلمنا الكثير من الدروس على رأسها ان تكون لنا محافظة قابلة للجميع وهي مفتوحة سكنا وتجارة وتعاملا .
في حضرموت واديها وساحلها تسير في شوارع المدينة فتجد اليمنيين كافة يسيرون ويعيشون ويتعايشون ولا احد فوق القانون المهم .. لاتخطئ ..
تذكر هذا جيدا وأنت تجوب شوارع المكلا ..
في شوارع المكلا وطوال 3 أيام ظللت باحثا عن مسلح واحد ولم اجد.
ثمة مدير امن ترفع له القبعات ويدعى “منير التميمي”.
سألني قلبي الدامي وانا احمل شنطتي الصغيرة وارفع عدسة هاتفي لالتقاط الصور المتعددة، ماذا عن عدن يافتحي؟
قلت لقلبي:” ستسلك “عدن” ذات يوم طريق المكلا .. حتما.. لامناص عن ذلك..
كل ماهممت ان أقول للكثير من الحضارم ان وضعهم أفضل أتذكر صوت الحضرمي اللائم.
وفي الحقيقة بعيدا عن الكتابات الغير واقعية فحضرموت أفضل حالا من غيرها ولايحتاج الأمر شهادة “فتح بن لزرق” ولن يحتاج الأمر زيارة قصيرة إلى محافظة اخرى .
سألت بن عبدون مدير مكتب التربية بمحافظة حضرموت ونحن نتجول بمدرسة عائشة للتعليم الأساسي :” هل هذه مدرسة خاصة؟
ضحك الرجل وقال :” هذه حكومية ولدينا الكثير منها.
في مدرسة عائشة بدأ المشهد نموذجيا إلى حد كبير.
سار بنا بن عبدون إلى مركز لرعاية التأهيل الصم والبكم وقال :” هل تعلم انه لاتوجد مدرسة بلا معلمين ولا مدرسة بلا كراسي أو مدرسية بلا معلمين.
3 ألف معلم هم محصلة التعاقد الأخير لمكتب التربية والتعليم في المحافظة ومن إيرادات المحافظة.
تبدو الكتابة عن واقع حضرموت صعبة للغاية ولكن ثمة مخلوق يتشكل ويحتاج عام إلى عامين لكي يكون واقعا معاشا بصورة مغايرة عن الحال.
فثمة مطار اٌعيد تشغيله وهناك ميناء يزدهر وهناك قناة فضائية خاصة بالمحافظة وهناك أكثر من 20 مشروع استثماري وكلها ستحلق عاليا خلال أشهر فقط.
كانت الساعة الواحدة بعد الظهر ونحن نتجول وسط مدينة الشحر حينما قلت لرفيقي :” هشام الجابري” الناطق باسم المنطقة العسكرية الثانية إنني أريد ان أتناول طعام الغذاء بمدينة الشحر.
كنا في زيارة إلى مصنع الوطنية للأسماك وهو احد المشاريع الاستثمارية الطموحة.
كان “الجابري” يرتدي بدلته العسكرية وعليها نجمة وتعني في السلك العسكري ملازم ثاني.
قال :” انتظر إذا اخلع الرتبة لكي استطيع ان ادخل المطعم فالدخول بالرتبة مخالفة صريحة.
“الجابري” الذي يعمل منذ سنوات ناطقا باسم المنطقة العسكرية الثانية لايزال كما هو ملازما ثانيا يقود سيارة متهالكة وحينما يمر بالنقاط العسكرية يؤدي الجنود التحية العسكرية له.
عشت سنوات طويلة لم ارى ذات المشهد قط في عدن.
قلت له :” لو انك بعدن ياهشام كنت ستصبح غنيا ولديك طابور طويل من النساء والسيارات وستكون صاحب رتبة عسكرية تمنحك قدرة مضاجعة كل شيء، النساء والاراضي وعلى قارعة الطريق لكنك لن تجد تحية عسكرية من احد..
في جلستي الثالثة من اللواء البحسني قلت له :” قل ياسيادة اللواء انتم مع من .. وحدة أم انفصال أم فيدرالية أم أقاليم ؟؟
قال :” نحن انشغلنا بالبحث عما ينفع الناس فالوطن هو الخدمات والرواتب والمشاريع والتنمية ونحن مع مايوفر للناس حياة كريمة .. هذا هو الوطن الذي نبحث عنه ، لن نبيع للناس شعارات امنح الناس واقعا افضل ثم تحدث في شئون السياسة .
نجح “الحضارم” حينما انتهجوا سياسة النأي بالنفس كانوا أصدقاء جيدين للسعوديين والإماراتيين والشرعية والحراك والانتقالي وكل القوى الأخرى .
نأى الحضارم بأنفسهم عن صراع الشعارات هذا وحلقوا بعيدا ونجحوا وجنبوا محافظتهم حالة الصراع المدمرة هذه.
لم يقف الحضارم يوما ليسألوا الناس من انتم؟
لم يقف الحضارم على الطرقات والمساحات ليمتروها بسطا.
لم يحاصروا مطارهم ولا مينائهم بسطا.؟
لم يقولوا يوما ان سلوك الميليشيات يمكن له ان يؤسس دولة فالجنود هناك رسميون ويتبعون قيادة واحدة ولا شيء حاضرا غير الدولة وسلوكها.
كان ثمة فرصة ولم ينثرها الحضارم في الهواء ورغم ضآلة الفرصة مقارنة بما منح لعدن من فرص متوالية منذ انتهاء الحرب.
ليس الواقع في حضرموت ورديا لكنه الافضل فمشكلة الكهرباء في طريقها إلى الانتهاء هذا العام وقواتهم وأمنهم جهازين امنين موحدين ومشاريع الاستثمار تتكاثر.
ثمة فرصة تاريخية ونادرة ان تستعيد “حضرموت ” دورها الحقيقي اليوم.
شعرت برغبة عارمة في البكاء والصراخ وانا أشاهد الصف الطويل لمتخرجي كلية الشرطة بحضرموت وهم يقطعون ساحة العرض صفا واحدا.
كانت الكلية خليطا من أبناء محافظات مختلفة .
لم يقل “الحضارم” لانريد احدا.. فتحوا الباب لغيرهم ايضا
ذات يوم كان لعدن فرصة اكبر من هذه لكن “الغوغاء” نثروها على الطريق.
قال لي مدير كلية الشرطة :” قبل عامين كانت هذه المساحة أكوام ضخمة من الرمال والخراب وبينها حلم صغير.
ذهبت الرمال وتحولت الأحلام إلى واقع حقيقي وبات لحضرموت كلية للشرطة .
رويدا رويدا تتلمس طريقها صوب الافضل .
“حضرموت” ليست واحة ولا جنة الله على أرضه ولكنها أفضل حالا من كل المحافظات اليمنية الأخرى .
في ليلتي الثانية تلقيت رسالة من ناشط إصلاحي ويدعى “عبدالجبار الجريري.
قال لي :” أتمنى ان التقيك .
تذكرت هذه الرسالة وانا في حضرة البحسني في لقائي الثالث به.
قلت له :” هل تعيش كل القوى السياسية في حضرموت.
قال :” نعم كل القوى السياسية متواجدة ونلتقي بها وليس لنا مشكلة ومكتبي هذا نلتقي فيه الجميع مؤتمريون على إصلاح على حراك على انتقالي .
نجح الحضارم في رسم شكل العلاقة السياسية مع كل الأطراف حتى مع التحالف ذاته .
قالوا للتحالف أنهم شركاء وكان لهم ما أرادوا .
في مكتبه المتهالك بداخل قصر السلطان القعيطي يقضي “رياض باكرموم” جل يومه في محاولة لإعادة الروح إلى قصر السلطان ومتحفه القديم .
قال “رياض” انه يتوقع ان يتم الانتهاء من اعمال الترميم خلال أشهر ليكون المتحف جاهزا لاستقبال الزوار.
وعلى بعد أمتار منه يقضي خالد بن عاقلة يومه داخل معرض صور ضخم يحكي تاريخ حضرموت وما أنجز خلال السنوات.
لدى الحضارم مايحكونه ويعرضونه..
رائد الارضي وهو وكيل النيابة الجزائية أو رئيسها لا اتذكر جيدا بدأ الأكثر تفائلا بالوضع القضائي والامني.
بعد أيام قليلة سيطل زميل اسمه “مجاهد الحاج” من شاشة كبيرة ليقول للناس “هنا حضرموت” وصوتها الفضائي بعد سنوات طويلة على اعادة بث اذاعة المكلا الحكومية.
كثيرة هي الاشياء التي تٌحكى في حضرموت ولن يسعها مقابل صحفي وزيارة عمرها 3 أيام ولكن مختصر هذه الحكاية هي ان الحضارم اختاروا السير في طريق مختلفة عن البعض الذي تذكر “الشعار” ونسي الانسان ، البعض الذي نسي الدولة وطارد الشعارات ونثرها على طول الطرقات.
تحتاج “حضرموت” ان يلتف أبنائها حول قياداتهم وان يدركوا ان ماتحقق لهم وان بدى باعينهم القليل إلا انه الكثير الكثير بأعيننا نحن أبناء المحافظات الاخرى.
لايحتاج الحضارم إلا ان يواصلوا ذات السياسة.
الكثير من العمل القليل من الكلام.
فتحي بن لزرق
4 يناير 2020