مع نهاية عام 2018 وبداية عام 2019 شهدت دول عربية عدة موجات من الاحتجاجات التي أعادت “الروح” إلى ثورات الربيع العربي، بعد حالة من التراجع في الإقبال الجماهيري على الاحتجاج ضد الأنظمة الحاكمة، وخشية معظم الشعوب من تكرار ما آلت إليه ثورات مماثلة في سوريا وليبيا واليمن من صراعات وحروب داخلية.
اتسمت موجة الاحتجاجات الجديدة بالتظاهر السلمي، وإصرار المحتجين على تفويت الفرصة على الحكومات في استخدامها القوة ضدهم وجرهم إلى صراع مسلح ستكون الغلبة فيه للأجهزة الأمنية، ومن ثم إجهاض أهداف المحتجين.
في السودان والجزائر والعراق ولبنان خرج المحتجون إلى الشوارع احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية والفساد الذي تعاني منه مؤسسات تلك الدول وأسباب أخرى، بعضها على صلة بتغيير النظام أو إجراء إصلاحات سياسية جذرية.
احتجاجات 2019.. الاستفادة من أخطاء 2011
استقت الموجة الثانية من الاحتجاجات الدروس والعبر من الموجة الأولى، فالمتظاهرون لم يعودوا قانعين بالإطاحة بالحكّام السلطويين، بل باتوا يستهدفون هياكل الدولة العميقة.
حرص المحتجون على تفادي الانقسام على أساس هوياتهم وانتماءاتهم، وطالبوا بتنظيم انتخابات جديدة يُعتد بها، فيما كان التحدي الذي تواجهه كل دولة يكمن في إيجاد المسار المؤدي إلى عملية انتقالية سياسية واقتصادية تُرضي الشارع.
الدول الأربع التي اختبرت موجات احتجاجات في عام 2019 هي الجزائر والسودان والعراق ولبنان، وهي دول بقيت بمنأى عن “الربيع العربي” في عام 2011، حيث كان الشعب حينها لا يزال مهزوزاً بسبب سنوات من الصراع والعنف السياسي.
بيد أن موسماً جديداً من السخط انطلق في هذه الدول نهاية 2018، وبداية العام 2019 قبل أن تختتمها احتجاجات لبنان والعراق في أكتوبر الماضي، ولكن هذه المرة كانت الوسائل المستخدمة أكثر سلمية، عكست استفادتهم من دروس ماضيهم وجيرانهم.
كما انطلقت هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات بعد تنامي الاستياء الاجتماعي منذ سنوات، كما أن الأسباب نفسها التي أدّت إلى اندلاع انتفاضات العام 2011 لاتزال موجودة في المنطقة.
النسخة الثانية أشد غضباً
وتقول صحيفة “الغارديان” البريطانية، في 27 ديسمبر 2019، في افتتاحيتها إن أكثر من 60% من سكان الشرق الأوسط من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً يشعرون بالإحباط والغضب من فساد الطبقة الحاكمة، والتدخل الأجنبي، وسيطرة الجيش على الحياة اليومية وشؤونها.
وترى الصحيفة “أنه منذ نحو 10 سنوات أدت هذه العوامل ذاتها إلى خروج مئات آلاف من الشباب العرب للتظاهر فيما أصبح يعرف باحتجاجات الربيع العربي. والآن عاد المتظاهرون إلى الميادين أكثر حكمة، ولكن أيضاً أشد غضباً”.
وتضيف أن الاحتجاجات الآن في دول كانت على هامش الموجة الأولى من احتجاجات الربيع العربي، ففي الموجة الأولى كانت تونس ومصر وليبيا وسوريا والمغرب واليمن والبحرين، والآن العراق والجزائر ولبنان، وسبقتهم السودان.
وترى الصحيفة أن لبنان والعراق على وجه الخصوص “يمثلان خطراً، لأن الاحتجاجات تمثل تحدياً لنفوذ إيران في مؤسساتهما السياسية، فطهران لا ترغب في أن يقل نفوذها في المنطقة”.
وتعتقد أنه خلال المرحلة المقبلة “ستصعد إيران من ضغوطها على الدول التي تتمتع بنفوذ كبير داخلها، وستؤدي إلى دق طبول الحرب في المنطقة”.
السودان.. أول نجاح لشرارة الموجة الثانية
نجا الرئيس السوداني عمر البشير من موجة الربيع العربي في 2011، وكان هذا أمراً لافتاً بالنظر إلى تاريخ الشعب السوداني المفعم بالثورات، ولكن في موجة 2019 لم يكتفِ السودانيون بالإطاحة بالبشير بل سجنوه أيضاً.
ونسبياً، يبدو السودان البلد الأكثر نجاحاً في موجة 2019 من الربيع العربي، فبعد بداية دموية تمثلت في مذبحة القيادة العامة للقوات المسلحة، حققت البلاد انتقالاً سلمياً للسلطة بالاتفاق بين العسكر والحراك، وشكلت البلاد حكومة تسعى للخروج من الأزمة الاقتصادية وتحقيق مصالحات مع الحركات المتمردة.
وسعى الحراك السوداني إلى تجنب أخطاء الموجة الأولى من الربيع العربي، لا سيما النموذج المصري، وأبرز هذه الأخطاء عدم الإسراع بإجراء انتخابات، في حين ما تزال فلول الدولة العميقة تسيطر على البلاد.
في المقابل، لجأ الحراك للتفاهم مع العسكريين لإقامة سلطة مشتركة غير منتخبة ستدوم ثلاث سنوات، والمفارقة أن الحراك كان يريدها أربع سنوات، في حين أن المؤسسة العسكرية كانت تريدها عاماً واحداً.
الجزائر.. إزاحة الرئيس المسنّ
وعلى غرار السودان مرَّ الربيع العربي في 2011 على الجزائر كنسيم غير عاصف، فاندلعت مظاهرات محدودة ولكن دون تأثير.
وانفجر الحراك الجزائري في فبراير 2019، بعد الإعلان عن ترشح عبد العزيز بوتفليقة للرئاسة، وانحاز الجيش لخيار الشارع برفض العهدة الخامسة، واستقال بوتفليقة وبدأت حملة تطهير لبعض الرجال المحسوبين عليه.
ولكن سرعان ما انتهى شهر العسل القصير بين العسكر والحراك مع إصرار الجيش على إجراء الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوز عبد المجيد تبون بها، والذي يعتبره البعض وجهاً محسناً للنظام.
ويبدو أن الجزائر في وضع غامض أمام مؤسسة عسكرية قوية فقدت قيادتها للتو برحيل أحمد قائد صالح رئيس الأركان، ورئيس محسوب على النظام ويعاني عداء الحراك، ولا يعرف مدى فاعلية سلطته على الجيش، في مقابل الحراك الذي يبدو أنه يزداد سخطاً، وسط وعود متراكمة بالإصلاح من الرئيس الجديد.
العراق.. البطالة شرارة الاحتجاجات
وشكّلت البطالة، ربما، دافعاً للتظاهرات والاعتصامات المتفرّقة التي شهدها العراق خلال عام 2019، وتحديداً مطلع أكتوبر الماضي.
لكن أحداثاً أخرى، مثل نقل الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي من منصبه في جهاز مكافحة الإرهاب الذي يُعدّ من بين قوات النخبة، وضعف الخدمات، وانتشار الفساد، ولاحقاً ردّت الحكومة بالقمع والقتل بحق المتظاهرين السلميين في 1 أكتوبر، أقنعت الجيل الجديد الذي لم يشهد بعد راحةً أو استقراراً بأنه يجب وضع حدّ للوضع القائم.
ورغم أن العراق أكثر تسيساً وطائفية فإن المحتجين حاولوا الابتعاد عن الحروب الأهلية لصالح حراك شعبي غير مذهبي، لكن حائط الصد الأول في العراق ضد تحقيق مطالب الحراك هي إيران، التي يقود جنرالها الشهير قاسم سليماني الثورة المضادة، لدرجة أنه يرأس اجتماعات أمنية رفيعة المستوى بدلاً من رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي.
كما أن سليماني أخّر استقالة عادل عبد المهدي، ويواصل الضغط لفرض مرشح موال لبلاده عبر الكتل التابعة لهم بالبرلمان العراقي، في وقتٍ قدم الرئيس العراقي برهم صالح استقالته للبرلمان بسبب الضغوط الممارسة عليه للقبول برئيس وزراء موالٍ لطهران.
ولا يزال المحتجون يملؤون الساحات ويرفعون أصواتهم المطالبة برحيل القيادات السياسية بالبلاد، والقضاء على الفساد، رغم سقوط نحو 500 قتيل.
لبنان.. الثورة أقوى من النظام
خلال سنوات ماضية عاش لبنان بحكومة ضعيفة أمام مجتمع منقسم بين طوائف لها حقوق أبدية لا تمس، وزعماء يستغلون هذه الحقوق لمصالحهم، وشعب مشتت بين غضبه من النظام الطائفي برمته وولائه لزعيم طائفته وخوفه من مليشياته.
لكن تراكم الغضب، ووقوع البلاد في أزمة مالية هائلة، وقرار فرض رسوم على الاتصالات، أخرج الشارع، منتصف أكتوبر الماضي، موحداً بشكل غير مسبوق، رافعاً شعاراً موحداً للمطالبة بإسقاط الجميع: “كلن يعني كلن”.
ورغم إلغاء الحكومة ذلك القرار، اتخذه المحتجون مساراً ركز على الفساد وسوء الأداء الحكومي وتردي البنية التحتية، مع المطالبة بإسقاط المنظومة كلها ومواصلة الاحتجاجات حتى الاستجابة لهذه المطالب.
وتحت ضغط الشارع استقالت حكومة رئيس الوزراء سعد الحريري، وعجزت القيادات السياسية في البلاد عن تقديم البديل حتى اليوم، فيما لا يزال المحتجون في الشوارع.
ولا تزال إيران تضغط هناك عبر ذراعها المتمثل بحزب الله اللبناني، الذي يرأسه حسن نصر الله، في مواجهة تلك الاحتجاجات، في بلدٍ عرف بتوغل طهران بداخله بشكل كبير.