ما تشهده الساحة اليمنية من حرب داخل الحرب وظهور قصة انفصال الجنوب عن الشمال مرة أخرى أربك المشهد بصورة مأساوية ما يطرح العديد من التساؤلات حول خلفيات ما يجري على الأرض لمن يريد أن يضع تصوراً لكيفية وقف نزيف الدم هناك فمن يقف وراء الدعوات للانفصال ولماذا وهل للقصة جذور؟
أقدم مستعمرة في شبه الجزيرة:
حتى نقف على ما يجري الآن علينا العودة للوراء حيث جذور المشكلة ففي عام 1839 قامت بريطانيا بوضع يدها على عدن وحولتها لمستعمرة كانت وقتها المستعمرة الأجنبية الوحيدة في شبه الجزيرة العربية وفيها أقامت بريطانيا إدارة ومركزاً تجارياً ومؤسسات تعليمية وكان ميناء عدن يقوم بدور حماية قوافل التجارة الإنجليزية بين القارتين الآسيوية والأوربية فتحولت عدن إلى مركز تجاري هام يجذب مختلف الأعراق والفئات من بينهم عدد كبير من الهنود والصوماليين.
في ذلك الوقت كانت اليمن عبارة عن قبائل يعيش كل منها في مناطقها ولا توجد دولة مركزية بالمعنى المفهوم مما سهل مهمة الاحتلال البريطاني الذي عمد ممثلوه إلى تطبيق سياسة «فرق تسد» بحذافيرها حيث أنشأوا أكثر من 25 إمارة ودويلة في الجزء الجنوبي من اليمن فقط.
حكم الأئمة في الشمال:
أما شمال اليمن فكان يقع تحت حكم الأئمة لسنوات طويلة حتى ستينيات القرن الماضي حين انقلب ضباط من الجيش على حكم الإمام أحمد وأعلنوا قيام جمهورية اليمن لتشهد البلاد صراعاً إقليمياً دموياً كان عنوانه الملكية والجمهورية وكانت مصر بقيادة جمال عبدالناصر والسعودية تحت قيادة آل سعود في المنتصف من ذلك الصراع.
كانت مصر تدعم قيام الجمهورية في اليمن الشمالي بينما دعمت السعودية حكم الإمامة وأرسلت مصر آلاف الجنود بقيادة عبدالحكيم عامر لدعم انقلاب عبدالله السلال على حكم الإمام أحمد بينما قامت السعودية بتزويد القبائل اليزيدية التي تدعم الإمام بالسلاح والعتاد واستمر ذلك الصراع سنوات طويلة وانتهى بإعلان تقسيم اليمن إلى الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية في الجنوب والجمهورية اليمنية العربية في الشمال.
أثناء ذلك الصراع كان جنوب اليمن تحت سيطرة الاحتلال البريطاني وكان يشهد مقاومة شرسة لذلك الاحتلال حتى عام 1967 حين انتهت مرحلة الاستعمار في جنوبي اليمن الذي كان يضم عدن وامارات ومحميات صغيرة كانت تحت سلطة الانتداب البريطاني وحملت الدولة الوليدة اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وتولى قحطان الشعبي رئاسة الجمهورية.
اليمن الجنوبي واليمن الشمالي:
شهدت الفترة من 1967 وحتى 1990 وجود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب والجمهورية اليمنية في الشمال ومن المهم أن نذكر بعض الحقائق المجردة عن البلدين إن جاز التعبير.
يشمل جنوب اليمن نحو 80% من مساحة اليمن الموحد مقابل 20% فقط هي مساحة اليمن الشمالي أما سكانياً فالوضع معكوس حيث 20% فقط من عدد السكان البالغ نحو 29 مليوناً يعيشون في الجنوب بينما 80% من السكان ينتمون للشمال إضافة إلى ذلك فإن ثروات اليمن تتركز بشكل كبير في الجنوب بينما الشمال عبارة عن هضبة تتوقع التقارير أن تنفذ منها المياه عام 2034.
هذه العناصر توضح رغبة غالبية أهل الجنوب الآن في الاستقلال عن الشمال وإعادة دولتهم المنفصلة عن الشمال إضافة إلى عنصر آخر لا يقل أهمية وهو طبيعة أهل الجنوب الثقافية والاجتماعية حيث أنهم أكثر انفتاحاً وأقرب للحداثة عكس أهل الشمال الذين تغلب عليهم القبلية أكثر والتشدد الديني لأنهم أقرب إلى الوهابية.
جنوب إشتركي وشمال رأسمالي:
استولت جبهة التحرير الوطني على السلطة في الجنوب عام 1969 وبدأت بتطبيق برنامج اقتصادي يساري بدعم واسع من قبل الاتحاد السوفييتي السابق وظلت علاقة شطري البلاد تتسم بالتوتر وأحياناً وصل إلى مرحلة المواجهة المسلحة عامي 1972 و1979.
لكن الجنوب بسبب موقعه المتميز كان دائماً مطمعاً للقوى الكبرى وأدى ذلك إلى خلق تيارات سياسية متناحرة وفي النهاية اندلعت حرب أهلية مدمرة في اليمن الجنوبي عام 1986 بين جناحين في الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم انتهت بسيطرة الجناح الذي كان يقوده على سالم البيض ضد الجناح الآخر بقيادة الرئيس علي ناصر محمد الذي لجأ إلى الخارج لاحقاً.
الوحدة تمت لكن لماذا؟
كان الاتحاد السوفيتي يمثل الداعم الأساسي لليمن الجنوبي ومع دخوله مرحلة التفكك تسارعت خطوات توحيد شطري اليمن وهو الأمر الذي ساعد في توصل الشمال والجنوب إلى اتفاق وحدة عام 1990 بعد مفاوضات مطولة قادها الرئيس علي عبدالله صالح عن الشمال ونظيره الجنوبي علي سالم البيض وتولى صالح رئاسة اليمن الموحد بينما تولى البيض منصب نائب الرئيس.
وتم تشكيل حكومة ائتلافية بين حزب المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي اليمني عام 1993 لكن بعد أشهر قليلة غادر البيض صنعاء (عاصمة الشمال التي أصبحت عاصمة لليمن الموحد) واستقر في عدن ووجه اتهامات للشمال بتهميش الجنوب وتعرض أبناء الجنوب لاعتداءات الشماليين.
تصاعدت حدة التوتر بين الجنوب والشمال وساهم فيها بالطبع الطبيعة القبلية المتجذرة في التركيبة السكانية وما لبث أن اندلعت معارك عنيفة بين الجانبين انتهت بهزيمة الجنوبيين وفرار قادة الجنوب إلى الخارج حيث يستقر البيض في الإمارات منذ ذلك الوقت.
ولكن رغم انتصار الشمال واستمرار الوحدة لم يتوقف أبناء الجنوب عن الشكوى والاحتجاج على ما يصفونه بالتهميش والإقصاء اللذين يتعرضون لهما كما يقولون.
الحوثيون دخلوا على الخط:
من المهم أن نتذكر أن الثورة الشعبية في اليمن ضد حكم علي عبدالله صالح اندلعت من الجنوب اعتراضاً على الأوضاع المعيشية الصعبة والتهميش لصالح الشماليين وتطورت الأمور ورغم تحالف صالح مع جماعة الحوثي إلا أنهم سرعان ما تخلصوا منه وانقلبوا على خليفته عبدربه منصور هادي وكان ذلك عام 2014 حينما اقتحمت المليشيا الحوثية صنعاء العاصمة.
استمر ذلك الوضع حتى تم توحيد اليمن تحت رئاسة علي عبدالله صالح الذي كان رئيساً لليمن الشمالي وذلك عام 1990 وهو الوضع الذي استمر حتى انقلاب الحوثيين المدعومين من إيران على علي عبدالله صالح واقتحام ميليشياتهم للعاصمة صنعاء وذلك عام 2014.
الدور الإماراتي:
ومع تشكيل السعودية تحالفاً لدعم الحكومة المعترف بها دولياً وشن الحرب منذ مارس 2015 ظهر لاعب جديد مهم على الساحة اليمنية وهو دولة الإمارات العربية المتحدة التي عمدت منذ اللحظة الأولى لدخولها إلى اليمن من الجنوب وتحديداً عدن إلى تكريس وجودها على الأرض في الميناء الحيوي بحثاً عن السيطرة على باب المندب.
في ظل احتضان الإمارات لقادة الجنوب وعلى رأسهم آخر رئيس للدولة علي سالم البيض يتضح أن ما قامت به الإمارات منذ اللحظة الأولى لدخولها التحالف مع السعودية كان تحضيراً لقيام دولة اليمن الجنوبي مرة أخرى وهذا ما كشفت عنه تطورات الأسابيع الأخيرة.
قوات التحالف في اليمن:
المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات الحزام الأمني التي تستولي على عدن وكثير من المدن الجنوبية حالياً يدين بالولاء للإمارات لكن على ما يبدو أن الأيام القادمة ستشهد ظهور لاعبين آخرين على الساحة سواء من قبائل أخرى أو من لاعبين إقليميين أو دوليين آخرين.
مجلس الحراك الثوري:
يأتي في هذا السياق إعلان وكيل محافظة المهرة السابق علي الحريزي عن إنشاء ما سماه مجلس إنقاذ وطني يمثل جميع الفصائل والمكونات في المحافظات الجنوبية باليمن وقال الحريزي إن الكيان الجديد سيحمل اسم «مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي» وسيتم إطلاقه رسمياً من المهرة بحسب موقع قناة الجزيرة القطرية.
كما أعلن رئيس المكتب السياسي لمجلس الحراك الثوري فادي باعوم -في بيان أصدره مؤخراً- أنه خلال عشرة أيام سيتم الإعلان عن تشكيل تكتل وطني جنوبي من أهدافه العمل على إنهاء الوجود العسكري الأجنبي في البلاد.
نفس البيان رسم ملامح خارطة طريق من أبرز بنودها إرساء شراكة بين كل مكونات الشعب مع تحريم أي إقصاء والتأكيد على التصالح والتسامح ثم رفض أي تدخل خارجي مهما كان وإعادة السلطة للشعب من خلال ممثلين منتخبين ومن خلال الاستفتاء.
الأيام القادمة إذن ربما تشهد تطورات جديدة في جنوب اليمن مع ظهور كيانات جديدة تحت مسميات مختلفة لكن الواضح أن مسألة قيام دولة جنوبية أصبحت أمراً واقعاً إلى حد بعيد.