بقلم - عبدالناصر المودع
إستحالة الانفصال القانوني وصعوبات الانفصال الفعلي في جنوب اليمن
تفكيك دولة قائمة عملية خطرة ومكلفة، إلا فيما ندر؛ فإي دولة قائمة، بغض النظر عن طريقة تكوينها، يصعب تفكيكها دون المغامرة في اشتعال حرب أهلية وربما حروب دولية في حال شاركت دول أخرى في تأييد أو منع التفكيك. كما أن السماح لأي جماعة أو منطقة بالمطالبة بالانفصال عن الدولة الأم بحجة الاختلاف الثقافي (لغوي-عرقي-ديني) أو وضع تاريخي ما، سيفتح الباب باتجاه تفكيك جميع دول العالم بشكل مستمر ولا نهائي، على شكل متوالية هندسية. فداخل الكيانات الانفصالية توجد أو ستوجد كيانات صغيرة تطالب بالانفصال بنفس مبرر الكيان الأكبر منها، وهكذا دواليك.
كما أن التفكيك يدمر النسيج الاجتماعي للدول، إذ أنه يعمل على إجبار جزء من السكان على النزوح من مناطقهم، وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازنات القائمة في مواطن النزوح ومواطن الاستقبال، ويفتح الباب أمام صراع محموم على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية أو الموقع الاستراتيجي.
وإدراكا من العالم لهذه المخاطر والشرور الناتجة عن عمليات تفكيك الدول القائمة، أستقر الرأي السياسي والقانوني، خاصة في النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، على منع عمليات الانفصال، واستثنى من ذلك الشعوب التي يصنفها القانون الدولي بأنها خاضعة للاحتلال أو الاستعمار أو الوصاية، أو القاطنين في مناطق يصنفها هذا القانون بأنها مناطق متنازع عليها، وكذلك الدول الاتحادية التي يسمح دستورها لكل أو بعض مكونات الاتحاد فك الارتباط والخروج منه، كما كان حال الاتحادين السوفيتي واليوغسلافي السابقين.
وفي حالة جنوب اليمن نجد أن القانون الدولي عبر جميع قرارات مجلس الأمن، والتي تعد قواعد ومرجعيات قانونية لهذا القانون، يعتبر سكان المحافظات الجنوبية جزء من الشعب اليمني، ومن ثم فإن وضعهم القانوني يخضع لدستور الجمهورية اليمنية مثلهم مثل سكان المحافظات الشمالية. وهذا الدستور الذي قامت على أساسه الجمهورية اليمنية في مايو عام 1990، وتمت الموافقة عليه من جميع المواطنين اليمنيين في الشمال والجنوب في مايو 1991، بنسبة 98.3%، يُجرم عملية الانفصال، ويتعامل مع هذه الجمهورية على أنها وحدة واحدة ونهائية، كما تنص المادة الأولى منه، والتي لم ينالها التعديل في التعديلات اللاحقة.
وما يؤكد ما ذهبنا له، رفض مجلس الأمن الدولي الاعتراف بدولة الجنوب التي تم الإعلان عنها خلال حرب 94. ففي القرارين رقم (924) و(931)، اللذان أصدرهما المجلس خلال تلك الحرب، تعامل المجلس مع النزاع على أنه نزاع داخلي ضمن الجمهورية اليمنية. يضاف إلى ذلك؛ تأكيد جميع قرارات مجلس الأمن المتعلقة باليمن، والتي تزيد عن 10 قرارات، وبعضها تحت الفصل السابع، على وحدة اليمن وسلامة أراضيه. وكل ذلك يعني بأن اليمن دولة واحدة وشعب واحد، وفق القانون الدولي.
وبما أن الدستور اليمني يُجرم أي عمل أو سلوك يهدد وحدة الدولة؛ فإن السلطة التنفيذية والتشريعية لا تستطيعان أن تتفاوضا أو تقبلا بأي وضع يؤدي إلى ذلك. وعليه؛ فإن الانفصال القانوني الوحيد والذي سيعترف به الداخل اليمني والعالم، لن يكون إلا بتغيير المادة الأولى من دستور الجمهورية اليمنية بنص يسمح للمحافظات الجنوبية إعلان الانفصال أو الاستفتاء لتقرير المصير، أو أي صيغة أخرى. وهذا التغيير يتطلب استفتاء شعبي من قبل جميع المواطنين اليمنيين، وحدوث هذا الأمر عملية شبه مستحيلة في ظل وجود أغلبية شمالية (85% من سكان اليمن) ومعارضة شعبية جنوبية، يصعب تقدير حجمها، تعارض الانفصال.
وإذا كان الانفصال الشرعي والقانوني غير ممكن؛ فإن البديل للمطالبين بالانفصال هو الانفصال الفعلي، والذي تم في أكثر من منطقة من العالم. فهل بالإمكان وفقا لظروف اليمن الحالية حدوث انفصال فعلي؟.
من الناحية النظرية هناك الكثير من المؤشرات التي تشير إلى إمكانية حدوث انفصال فعلي؛ فهناك انهيار للسلطة المركزية، وسيطرة قوى غير شرعية على أجزاء مهمة من الدولة أهمهم الحوثيون، والذين يسيطرون على ما يزيد عن 70% من سكان الدولة والعاصمة صنعاء، وهناك قوى انفصالية وجهوية تسيطر على مناطق واسعة من الدولة، وهناك تدخل خارجي كثيف، جعل اليمن عمليا تحت وصاية هذه الدول، بعضها يدعم المشروع الانفصالي بكل قوة.
ومع ذلك؛ فإن الانفصال الفعلي غير ممكن أيضا؛ فهذا الانفصال، والذي نقصد به؛ الإعلان عن قيام دولة في المنطقة التي كانت تضم اليمن الجنوبي السابق، وتمارس السلطة الفعلية على هذه المناطق أو أغلبها، دون أن تحصل على اعتراف دولي حقيقي كما هو الحال في: جمهورية شمال قبرص ، جمهورية أبخازيا ، جمهورية أوسيتيا الجنوبية ، جمهورية أرض الصومال، فهذه المناطق أعلنت انفصالها عن دولها الأم وتسيطر حكوماتها على كل الأراضي التي أدعت أنها تابعة لها، إلا أن المجتمع الدولي لا يعترف بها، باستثناء عدد قليل من الدول.
فمن غير المرجح أن يوجد وضع مشابه في جنوب اليمن لأن الظروف المحلية والدولية لا تسمح بقيام وضع كهذا؛ فنجاح الانفصال الفعلي يتطلب توفر عدد من الشروط أهمها:
– وجود راعي خارجي قادر على حماية هذا الكيان سياسيا وعسكريا، وتوفير متطلباته المالية، وتنظيم شئونه السياسية والإدارية، وتوفير الاحتياجات الأخرى كجوازات السفر والعملة وغيرها. وفي حالة جنوب اليمن فليس هناك من دولة مرشحة للعب هذا الدور، على الأقل في الظروف الحالية، فدولة الإمارات العربية المتحدة، وهي الدولة التي تبدو مرشحة للقيام بهذا الدور كونها تدعم المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال، ليست مؤهلة ذاتيا وموضوعيا للقيام بهذا الدور.
فالإمارات ليست دولة مجاورة لليمن كما هو حال روسيا، بالنسبة لجمهوريات ابخازيا واوسيتيا الجنوبية أو حتى تركيا القريبة من جزيرة قبرص؛ حيث أن الجوار الجغرافي يمنح الكيان الانفصالي العمق الاستراتيجي المطلوب ويسهل للدولة الراعية تقديم المدد العسكري والاقتصادي، المطلوب لبقاء هذه الدولة. إضافة إلى ذلك؛ لا تمتلك الإمارات القوة العسكرية الكافية للدفاع عن منطقة بعيدة عنها، وتزيد مساحتها عن 360 ألف كم2، (خمسة اضعاف مساحة الإمارات نفسها تقريبا) ومواجهة ما يقارب 25 مليون نسمة (سكان الشمال) بحدود برية أغلبها مناطق جبلية يزيد طولها عن 700 كم. فالإمارات دولة صغيرة الحجم (83 ألف كم2) وعدد مواطنيها لا يصل إلى مليون نسمة (3% من سكان اليمن) ولا تمتلك قوة ناعمة يمكن التأثير من خلالها، ومصدر قوتها وأهميتها نابع من وجود فوائض مالية ضخمة ناتجة عن الثروة النفطية الهائلة التي تمتلكها.
إضافة إلى ذلك؛ لا تملك الإمارات أي مسوغات قانونية أو مخاطر أمنية أو دوافع ثقافية أو أخلاقية يمكن أن تبرر لها تفكيك دولة يعترف بها العالم، ورعاية كيان انفصالي، فهذا العمل يعد اعتداء صارخ على سيادة دولة، يجرمه القانون الدولي وهو ما قد يجر عليها مسائلات قانونية وسياسية واخلاقية.
وما يزيد الأمر صعوبة وقوع اليمن عمليا تحت الوصاية الإقليمية/الدولية؛ فهناك تدخل عسكري وسياسي قائم تحت قيادة السعودية بحجة استعادة الشرعية وعودة الأمن والاستقرار لليمن، بغطاء ضمني من مجلس الأمن عبر قرار (2216). وهناك أكثر من عشرة قرارات صادرة عن مجلس الأمن تؤكد على وحدة وسيادة اليمن ومعاقبة كل من يساهم في عدم الاستقرار في اليمن، وهناك ملف مفتوح داخل مجلس الأمن للوضع السياسي، والانساني في اليمن، والذي تصنفه الأمم المتحدة على أنه أسواء أزمة إنسانية في العالم، وكما أن هناك مبعوث أممي للشئون السياسية وأخر للشئون الإنسانية يقدمون احاطة شهرية لمجلس الأمن حول اليمن. وفي وضع كهذا يستحيل على الإمارات أن تقوم برعاية كيان غير قانوني في جنوب اليمن، لأنها ستعرض نفسها لمسائلات قانونية وسياسية وأخلاقية هائلة.
إلى جانب ذلك؛ لن تسمح السعودية، وهي الدولة صاحبة النفوذ الرئيسي في اليمن، للإمارات أن ترعى كيان انفصالي وتقوي نفوذها الإقليمي على حسابها ضمن حزامها الأمني، خاصة وأن السعودية في حالة صراع حيوي ضد الحوثيين ومن ورائهم إيران، والمشروع الانفصالي يعمل على ضخ مزيد من الفوضى في اليمن الأمر الذي يقوي الحوثيين.
وما يمكن أن يقال في هذا الشأن؛ أن الرعاية الإماراتية للمشروع الانفصالي تتم ضمن التدخل الذي تم بتفويض من الحكومة الشرعية لليمن، وفي حال وصلت هذه الرعاية إلى حد الإعلان بشكل رسمي عن كيان انفصالي؛ فإن الوضع القانوني والسياسي وربما العسكري سيتغير بشكل جذري. والنتيجة الطبيعية من كل ما ذكر هي استحالة رعاية الإمارات لدولة انفصالية في الجنوب كما قامت بذلك روسيا أو تركيا.
– الانفصال الفعلي يحتاج إلى سلطة محلية قوية بجسم سياسي متماسك وتأييد شعبي واسع، وموارد ذاتية وإن في الحدود الدنيا، وهذه الأمور غير متوفرة في الجنوب؛ فالجنوب يفتقر الهوية السياسية الجامعة؛ ويعاني من حس جهوي انعزالي، ويرجع السبب في ذلك إلى حداثة الدولة المركزية في الجنوب، والتي لم يتجاوز عمرها 23 سنة (1967-1990).
وما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي، المرشح الحالي لقيادة الدولة الانفصالية، ليس إلا كيان هش غير منسجم وتم صنعه من قبل الإمارات، وتهيمن عليه قوى قبلية تنتمي إلى محافظتي لحج والضالع اللتان تقعان في مساحة صغيرة غرب الجنوب. ومن المتوقع أن تظهر النزاعات البينية داخله، ومع قوى جنوبية أخرى، في حال سيطر هذا المجلس على أي مناطق جنوبية وأعلن قيام دولة.
ووضع بهذه الهشاشة يفتح الباب أمام “قوات الحكومة اليمنية” والقوى السياسية الشمالية لأن تسند القوى الجنوبية المعارضة للمجلس الانتقالي، كما حدث في محافظة شبوة مؤخرا، وتسحقه في حال ضعف الدعم الخارجي له، خاصة وأن هذا العمل سيتم بغطاء شرعي داخلي وينسجم مع القانون الدولي، كما حدث في عام 94.
إضافة إلى ذلك؛ لا يوجد للجنوب موارد كافية لإنشاء جهاز إداري وقوات عسكرية وتقديم خدمات للسكان، فإنتاج الجنوب من النفط لا يزيد عن 40 ألف برميل، ويقع معظمه في محافظة حضرموت، والتي لديها طموحات استقلالية خاصة بها.
– يتطلب الانفصال الفعلي وجود انفصال ثقافي/اجتماعي حقيقي عن الطرف الأخر، وبالنظر إلى الحالة اليمنية؛ فليس هناك من اختلاف ثقافي/اجتماعي كاللغة أو الدين أو البنية الاجتماعية يميز الجنوبيين عن الشماليين، والعكس هو الصحيح فاليمنيون من الشعوب النادرة في العالم التي تمتاز بتجانس ثقافي عالي، وهي حقيقة يحاول الانفصاليون الادعاء بنقيضها.
– جنوب اليمن مساحته تقارب ثلثي مساحة الدولة اليمنية، وهو بهذه الصفة ليس منطقة معزولة وهامشية في الدولة، يمكن تجاهلها من قبل بقية الدولة والسماح لها بالانفصال الفعلي، كحال “جمهورية أرض الصومال” يضاف إلى ذلك حالة التداخل الاجتماعي الواسعة بين الشماليين والجنوبيين، وكذلك التداخل الاقتصادي والسياسي والجغرافي الكبير بين المنطقتين، فالجنوب يرتبط مع الشمال بحدود برية لا يفصل بينها حواجز طبيعية بما يزيد عن 700 كم، وهذه العوامل تجعل من السهل على الشمال اختراق الجنوب عسكريا وسياسيا، خاصة وأن النزعة الوحدوية عالية لدى الغالبية العظمى من الشماليين وجزء معتبر من الجنوبيين.
لقد أزدهر المشروع الانفصالي في الجنوب لأسباب كثيرة أهمها تراخي السلطة المركزية مع هذا المشروع وتماهي بعض أطرافها فيه، قبل سقوط صنعاء بيد الحوثيين، وضعف السلطة المركزية بعد ذلك، وكثافة التدخل الخارجي ودعم بعض أطرافه المشروع الانفصالي. وفي حال تقوت السلطة المركزية، وامتلكت الرغبة في محاربة هذا المشروع؛ فسيكون من السهل احتوى الحركة الانفصالية في الجنوب سياسيا وعسكريا.
يدرك كل من يعرف طبيعة الوضع في اليمن بتعقيداته ، أن هذه الدولة يصعب تقسيمها، بأي صيغة من الصيغ؛ فالدولة الواحدة هي الصيغة الوحيدة القابلة للحياة والاستمرار وما دون ذلك هي مشاريع فوضى دائمة.