بقلم - سليمان العقيلي
تشهد الأوساط السياسية والإعلامية جدلًا حول الوحدة اليمنية أو التشطير، وقد جاء ذلك بعد التحديات والتحولات الماثلة في حرب اليمن، والتي تسببت في تعطيل إنجاز الهدف الاستراتيجي للحرب.
ومن هذه التحولات نشوء المليشيات الداعية لانفصال الجنوب عن الشمال وتمدد نفوذها في بعض المحافظات الجنوبية، في خطوة خطيرة تهدد بنسف الغاية الكبرى للحرب الهادفة لتطهير اليمن من النفوذ الإيراني.
ورغم أن أبناء الجنوب أبلوا بلاء حسنًا في تحقيق ما أنجزته الحرب ليس في طرد الحوثيين من الجنوب فحسب، بل حتى من أجزاء كبيرة من الساحل الغربي والجبهات الشمالية، إلا أن فكرة الانفصال تلقي بظلالها السوداء على مشروع تأمين الأمن القومي العربي جنوب الجزيرة العربية، بما في ذلك صيانة الأمن القومي السعودي.
فانفصال الجنوب كان مشروعًا إيرانيًا قبل الحرب، ويذكر في هذا الصدد أن «حزب الله» أول من ساعد الحراك الجنوبي أثناء النضال ضد علي عبدالله صالح، في إطلاق قناة «عدن مباشر» من الضاحية الجنوبية لبيروت، وأوى علي سالم البيض أبرز القادة الجنوبيين المنادين بالانفصال، بل ويتردد أن إيران قدمت دعمًا ماليًا مباشرًا للحراكيين، في الوقت ذاته هي التي كانت تسلح الحوثيين بالشمال وتعدّهم لليوم الذي يتمكنون فيه من السيطرة على صنعاء وعلى السلطة اليمنية بأكملها.
وقد جاءت هذه التطورات الخطيرة خلال ما يمكن تسميته بغفوة استراتيجية خليجية، تنم عن عدم إلمام المدرك السياسي الخليجي بالمخاطر التي تطوقه جنوبًا، فيما كان منشغلًا بمشروع التمدد الإيراني شمال الجزيرة العربية: العراق وسوريا ولبنان.
أما كيف يخدم تشطير اليمن إلى دولتين الاستراتيجية الإيرانية، فيمكن رؤية ذلك من زاويتين: الأولى وضع السعودية منافس إيران الإقليمي تحت التهديد الأمني، والثانية تكوين حكومة يمنية جنوبية موالية يمكن أن تتيح لطهران فرصة الحضور الاستراتيجي على مضيق باب المندب – نتذكر هنا أن حكومات عدن بسبب موقعها كانت ترزح لهيمنة القوى الكبرى والإقليمية، مثل المماليك والعثمانيين والبرتغاليين والإنجليز والسوفييت حتى الوحدة – وإشراف إيران على مضيق باب المندب رصيد استراتيجي لا يقل أهمية عن تحكمها في مضيق هرمز، وهذا تعزيز خطير لاستراتيجية المضائق التي تسعى طهران لتكون ورقة تفاوض ومساومة لصالح مشروع النفوذ الإقليمي وخط دفاع متقدم في صراع المصالح الإيرانية مع الغرب، الذي يخبو أحيانًا بفعل دبلوماسية التخادم «سياسات أوباما والاتفاق النووي» ويشتعل أحيانًا أخرى بسبب شراهة الطموحات الإيرانية.
ومن ناحية أخرى فإن أهم مرتكزات مشروع الهيمنة الإقليمية الإيرانية، هو إضعاف قوة خصوم هذا المشروع وأقواهم الآن وهي القوة السعودية، ولضعضعة هذه القوة لابد من إشغالها بالتهديدات إن لم يكن استنزافها بالحروب المباشرة، ونظرًا لأن اليمن يمثل للأمن القومي السعودي خاصرة رخوة لأسباب تتعلق بطبيعة النظام اليمني والمشكلات البنيوية لهذا النظام، فقد وجدت الاستراتيجية الإيرانية أن هذا البلد هو أفضل ساحة تشكل تهديدًا تاريخيًا للسعودية.
ولن يتحقق لإيران هذا الهدف إلا عبر سلطة موالية في صنعاء، مثلما حدث في 21 سبتمبر 2014، عندما انقلب الحوثيون على الدولة وأمسكوا بالسلطة، ولتعزيز ميزان القوى لصالح هذه الجماعة لابد من قوة سياسية تحميها قوة عسكرية، وهو ما حصل وما زال يحدث حتى الآن، لكن استمرار ذلك يتعلق بأمر آخر وهو تغيير موازين القوة الديمغرافية، وهو ما يحصل بفصل الجنوب عن الشمال، لأنه في ظل الوحدة سيحصل الجنوبيون على نصف السلطة المركزية عبر شغل مناصب الحكومة والجيش، وهذا يقلص فرص الحوثي السياسية في السلطة والقوة، فيما لو تشكلت حكومة وحدة وطنية وائتلافية، وبالتالي يقلص النفوذ الإيراني داخل حكومة صنعاء، والعكس صحيح فيما لو انفصل الجنوب، حيث سيرث الحوثيون دور الزيدية السياسية الذي كان يحكم اليمن على مدى أكثر من ألف ومائة عام عبر الأئمة.
وقد تضعضع هذا الدور بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962، وكان يمكن أن ينتهي لو قام نظام سياسي عادل عقب ثورة الشباب عام 2011، لكن الرئيس السابق علي عبدالله صالح وبدافع من مصالحه السياسية والعائلية استدعى نموذج الأئمة بالتحالف مع الحوثيين وإيران في عام 2014، وبهذا لعب تقاطع الأطماع المحلية والإقليمية دورًا في نجاح إيران في تعزيز نفوذها باليمن.
لكن استمرار هذا النفوذ أمر مؤقت وخاضع لموازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، فاستمرار الوحدة اليمنية سيمثل ضغطًا نحو نظام سياسي أكثر عدلًا، ما يعني سلطة مركزية تشاركية متوازنة ونظم حكم ذاتي محلي، وهذا سيحرم أية فئة من الانفراد بالسلطة.
على مقلب آخر فإن انفراط الوحدة اليمنية وقيام حكومة مستقلة في عدن، سينظر له باعتباره ضربة قاصمة للنظام السياسي العربي وللأمن القومي العربي، فالتاريخ يعلمنا أن إشراف حكومة ضعيفة في عدن على باب المندب، يهيئ الفرص للعبة أمم في جنوب الجزيرة العربية، أو بمعنى آخر وصاية إقليمية أو دولية، فقد مر بهذه الأراضي الفرس والأحباش والأتراك والمستعمرون الغربيون بجميع إمبراطورياتهم، وختم ذلك بالوصاية الشيوعية للسوفييت، حتى قامت الوحدة اليمنية عام 1990.
من جانب آخر ربما يغري الانفصال ورثة السلاطين في اتحاد الجنوب العربي باستعادة أمجاد سلطاناتهم الـ17، التي كانت موجودة منذ ثلاثة قرون إلى ما قبل 60 عامًا، وما يغري بذلك هو وجود تململ جنوبي من احتكار أبناء الضالع وأبين للسلطة في عدن، منذ استقلال الجنوب عام 1967، وما يدريك لعل هناك هوى في عوالج القلب الحضرمي للسلطنة القعيطية في المكلا، فالإقليمية والمناطقية قوة ضاربة في الثقافة اليمنية، وإن كان الحس القومي والوحدوي هو الأعلى لدى النخب اليمنية.
إن تشطير اليمن لن يكون حجرًا في بحيرة راكدة، إنما زلزال سيهز المنطقة، وربما سيفتح الباب لتجزئة دول عربية أخرى خاصة ممن تحكمها سلطات مركزية هشة – مثلما هو الأمر في العراق وسوريا والسودان – وهو على كل حال حلم دائم للقوى الأجنبية والإقليمية، فتجزئة العرب وتقسيم دولهم سيناريو تتقاسمه أطماع إسرائيل وإيران وتركيا مع الأجندات الغربية، وما جنوب السودان عنا ببعيد.