تحقيق: محمد بن زايد وسلاح المرتزقة لخدمة أطماعه في النفوذ والتوسع

محرر 219 مارس 2019
تحقيق: محمد بن زايد وسلاح المرتزقة لخدمة أطماعه في النفوذ والتوسع

كان يوم الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2015 استثنائيا وغير معتاد بالنسبة لدولة لا تتوقف عن الاحتفالات تقريبا كالإمارات، حيث أُضيئت الأبراج الفارهة في أبوظبي ودبي إحياء لذكرى كانت الدولة الخليجية تحتفي بها للمرة الأولى في تاريخها، مطلقة على ذلك اليوم اسم “يوم الشهيد الإماراتي”، وهو يوم قرر النظام الحاكم أن يخصصه لتمجيد ذكرى رموزه وجنود الإمارات الذين قضوا نحبهم أثناء أداء “المهام الوطنية المختلفة” داخليا وخارجيا، سواء كانوا من القوات المسلحة أو الأجهزة الشرطية أو حتى من طواقم الفرق البيروقراطية المدنية.

وقد جاء اختيار ذلك التاريخ تحديدا لإحياء المناسبة الجديدة نظرا لموافقته ذكرى سقوط أول “شهيد” في تاريخ الإمارات: “سالم سهيل خميس”، أحد أفراد قوات الشرطة في إمارة رأس الخيمة والذي قضى نحبه في معركة مصغرة ضد القوات الإيرانية، في جزيرة طنب الكبرى، حين رفض إنزال علم بلاده من فوق الجزيرة، قبل يومين فقط من تأسيس الاتحاد الإماراتي رسميا في الثاني من ديسمبر/كانون الأول عام 1971.

تبدأ فعاليات ذلك اليوم عادة في وقت مبكر من الصباح بتنكيس العلم الإماراتي في جميع المؤسسات الحكومية في الإمارات السبع وفي سفارات الإمارات على مستوى العالم، فيما تتخلله دقيقة الدعاء الصامت للشهداء قبيل الظهيرة، قبل أن تبدأ مراسم رفع العلم مجددا، وهي فعاليات تُعقد بشكل رسمي فيما يُطلق عليها “واحة الكرامة”، المخصصة في أبوظبي لتلك المناسبة.

ولكن ما يبدو في ظاهره مجرد مناسبة وطنية جديدة ومستحدثة، يعد في جوهره حدثا رمزيا بالغ الدلالة على مستويات عدة، خاصة وأن الإمارات، وعلى مدار تاريخها القصير الذي لم يجاوز خمسة عقود، لم تعر الكثير من الاهتمام لذلك النوع من المناسبات التي تعكس هوية وطنية موحدة، وباستثناء يوم الاستقلال الذي يوافق الثاني من ديسمبر/كانون الأول من كل عام وهو تاريخ تأسيس الاتحاد الإماراتي، لا يعرف الإماراتيون أي أعياد وطنية جامعة، في الوقت الذي احتفظت فيه كل إمارة بإرثها وانتمائها القبلي الخاص، وإن توحدت اسميا تحت مظلة علم واحد في نهاية المطاف.

كان “يوم الشهيد” المستحدث شاهدا جديدا إذن على التغيرات الكبرى والمتسارعة التي تضرب قلب الإمارات الصغيرة، خاصة وأن الاحتفال الأول بالمناسبة جاء بعد أسابيع قليلة من خسارة عسكرية هي الأكبر في تاريخ البلاد، حيث لقي 45 جنديا إماراتيا حتفهم دفعة واحدة في كمين عسكري في “مأرب” اليمنية، مُشكّلين العدد الأكبر من القتلى العسكريين في أي مواجهة عسكرية أو أمنية في تاريخ الإمارات، ومع صدور شهادات وفاتهم فإنهم كتبوا رسميا شهادة لبلد عسكري جديد غير ذلك البلد الهادئ الذي عرفه الجميع لحد كبير قبل أقل من عقد على ضفاف الخليج.

كانت اليمن هي الحرب العسكرية الحقيقية الأولى في تاريخ الإمارات القصير، وكانت الخسارة البشرية المبكرة على ما يبدو أكبر من أن يتحملها مواطنو وقيادة الدولة على حد سواء، فالشعب الذي طالما نظر للدولة باعتبارها مجرد مورد للمنافع المالية والاجتماعية في مجتمع طالما غلبت فيه القبلية على القومية، وجد ذلك الشعب نفسه مُطالبا بأداء الالتزامات العسكرية المفروضة على المواطنين في الدول الوطنية، ليس فقط عبر أداء بضعة أشهر أو حتى سنوات من تجنيد إلزامي روتيني فرضه النظام الإماراتي الحاكم بالفعل عام 2014، وإنما عبر المشاركة في عمليات عسكرية فعلية وبالغة العنف وبكل ما تحمله من أخطار حقيقية، فيما اكتشفت القيادة الإماراتية أن العقد الاجتماعي الذي يعتمد على توفير الحياة الرغيدة مقابل الإذعان السياسي لم يكن كافيا وحده لضمان ولاء المواطنين في ظل متطلبات المواطنة التي تفرضها الدولة بشكلها الجديد.

في واقع الأمر، كان ذلك العقد الاجتماعي الخليجي يثبت يوما بعد يوم أنه يصبح أكثر صعوبة في الحفاظ عليه، خاصة مع زيادة نسب الشباب وارتفاع المطالبات بالتمثيل السياسي، وفي المقابل انخفاض عائدات تصدير الطاقة التي مكّنت الحكومات الخليجية لفترة طويلة من شراء ولاء شعوبها، وبالإضافة إلى ذلك كانت الإمارات بالأخص تواجه تحديا فريدا نسبيا، تمثّل في قلة عدد مواطنيها وتنوع انتماءاتهم القبلية والأيديولوجية، في الوقت الذي يبقى فيه أغلب سكان البلاد من المغتربين المرتبطين بمجتمعات أخرى، والذين يعتزمون العودة لديارهم في نهاية المطاف.

رويدا رويدا، اكتشف حكام الإمارات -خاصة الإمارات الكبرى في دبي وأبوظبي- أنه في الوقت الذي تتجه فيه إماراتهم شيئا فشيئا نحو الحداثة، فإنهم يحكمون ما يشبه شركات متعددة الجنسيات أكثر من كونها دولة حقيقية بالمفهوم العالمي، وإذا كان بإمكان الشركات أن تمارس السياسة، فإن موظفيها لا يمكنهم خوض الحروب، وأن إرسال الجنود إلى الخارج يتطلب ما هو أكثر بكثير من الأسلحة المتطورة باهظة التكلفة، وأن المغامرات العسكرية الخارجية تأتي دوما مع عواقبها السياسية والشعبية حتى وإن وقعت على بُعد آلاف الأميال من الحدود، وأن أحلام “محمد بن زايد” لامتلاك قوة عسكرية ضخمة منذ ثلاثة عقود مضت -وإن أصبحت واقعا مرئيا اليوم- فإنها يمكن أن تتحول بين عشية وضحاها إلى كوابيس عسكرية وسياسية لا نهاية لها.

أمير في الظل

مع استقلال إمارات الساحل المتصالح عن سلطة بريطانيا أواخر الستينيات، كان اندماج هذه الإمارات مدفوعا بالضرورة السياسية لحماية نفسها من أطماع القوى الإقليمية الأكبر مثل إيران، وهي ضرورة دفعت القبائل المتناحرة -وعلى رأسها آل نهيان وآل مكتوم والقواسم- لنسيان خلافاتها التاريخية وقبول الاندماج في كيان سياسي واحد، ونتيجة لذلك البناء السياسي المتعجل نسبيا؛ لم يكن المجتمع الإماراتي أكثر من مجتمع متخيل وُلد من رحم دولة تشكّلت بدافع الضرورة، وكان ذلك ما فطن إليه من يملكون مفاتيح النظام الحاكم الإماراتي، والذين اعتبروا منذ اللحظة الأولى أن تأسيس “هوية وطنية جامعة” هو المفتاح الأكبر ليس فقط للاستقرار السياسي، ولكن أيضا للأمن القومي.

كانت الخطوة الأولى والأكثر إلحاحا في هذه الجهود هي بناء جيش مشترك يتغلب على إرث الخلافات القبلية والعسكرية بين الأسر المسيطرة على الإمارات، وقد تحقق ذلك بالفعل في عام 1976 بعد خمسة أعوام كاملة من تأسيس الاتحاد، لكن الأمر تطلب 20 عاما إضافية من أجل توحيد جميع قوات الدفاع التابعة للإمارات -بشكل كامل- ضمن قوة وطنية موحدة، وهي قوة ظلت رمزية وبلا فاعلية إلى حد كبير، وعاد ذلك إلى المخاوف الكامنة في الإمارات الخليجية من أن قوة عسكرية محترفة وأكثر استقلالا يمكن أن تهدد عروش الأسر الحاكمة، والتي قررت الاعتماد في أمنها على حفظ توازن القوى الذي أقرته الدول الكبرى (بريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة)، وعلى الرعاية الأمنية لهذه القوى بوصفها الضامن الرئيسي للاستقرار في الخليج.

ونتيجة لذلك، فإن دولة الإمارات لم تلعب أي دور عسكري كبير في المنطقة منذ تأسيسها، فيما ظل التطور العسكري لقواتها المسلحة شديد البطء على المستويين التقني والفلسفي، حيث ورثت الإمارات التفكير الإستراتيجي العربي الذي كان ينظر إلى إسرائيل وإيران (ما بعد الثورة الإسلامية) بوصفهما التحديين الأمنيين الرئيسيين، وقد ساعد نزاع الإمارات التاريخي مع إيران على الجزر الثلاث، طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى، على تعزيز فكرة أن طهران تُمثّل التحدي الرئيس للأمن الإماراتي.

وسرعان ما تحول هذا الشعور إلى إطار واقعي للفعل السياسي مع إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981، وهو مجلس تشكّل في جوهره كرد فعل على تحول أكبر دولة إقليميا وقتها (إيران) إلى المعسكر المناوئ للغرب وحلفائه، خاصة مع تنامي الشعور أن إيران الخمينية كانت عازمة على بسط نفوذها وفرض هيمنتها في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج على وجه الخصوص، من خلال تصدير ثورتها، وهو شعور تعزز بشكل أكبر مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي اصطف خلالها مجلس التعاون داعما لبغداد صدام في مواجهة طهران.

لكن هذا التفكير الإستراتيجي الإماراتي تلقى التحدي الأول له مع الغزو العراقي للكويت عام 1990. وكانت الإمارات شأنها شأن دول مجلس التعاون داعمة للعراق بقوة أثناء صراعه مع إيران في الثمانينيات، حيث نظرت دول المجلس إلى بغداد بوصفها حصنا حاسما ضد التهديدات الإيرانية، غير أن الغزو العراقي للكويت غيّر من خريطة التهديدات من وجهة النظر الخليجية إلى الأبد، فلم تعد هذه الدول تنظر إلى طهران وحدها بوصفها تهديد أمنها الرئيسي، ولكنها صارت تنظر أيضا إلى غيرها من الدول الإقليمية الكبرى -بما في ذلك مصر وسوريا- بوصفها تهديدات محتملة، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الدول خبرت بوضوح التكلفة الشعبية للاعتماد الواضح على مظلة الحماية الغربية، حين استضافت أراضي وأجواء الخليج أكثر من نصف مليون جندي أميركي لطرد العراقيين من الكويت متسببة في تداعيات سلبية شعبية لأنظمة تلك الدول.

كانت أجواء حرب الخليج إذن أجواء مثالية لظهور دعوات “الاعتماد على الذات” و”تأسيس جيوش وطنية حقيقية”، وفي التوقيت نفسه بدأ اسم أمير ثلاثيني في الظهور في سماء الإمارات وهو “محمد بن زايد آل نهيان”، نجل حاكم أبوظبي ورئيس دولة الإمارات الشيخ زايد آل نهيان.

وكان “ابن زايد” يشغل منصب قائد القوات الجوية إبان حرب الخليج الثانية، حين تعرف عليه الجنرالات الأميركيون لأول مرة بعد لقائه مع الجنرال “شاك هورنر”، والذي حمل الامتنان لـ “ابن زايد” لفتح أبواب بلاده أمام القوات الأميركية وقتها، وعلى مدار السنوات التالية، فإن علاقة الأمير والجنرال ستفتح أبواب واشنطن على مصراعيها أمام “ابن زايد” كجنرال عسكري معتمد من العاصمة الكبرى، وكوجه سياسي اختارت واشنطن أن تضع كل رهاناتها عليه لحمل مفاتيح سياستها في الشرق الأوسط شديد التقلب.

خلال أعوام قليلة، تحول “ابن زايد” إلى الفتى الذهبي لواشنطن في الخليج، وفي أعقاب مفاوضات ماراثونية امتدت لأعوام، نجح الأمير الشاب في تأمين أول صفقة أسلحة أميركية كبرى للحصول على طائرات “إف-16” المقاتلة، بعد منافسة ماراثونية مع مصنعي الطائرات البريطانية والفرنسية، وهي صفقة حوّلت “ابن زايد” إلى الرهان الأول للبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA)، وكانت مفتاحا لصعوده المفاجئ في هرم السلطة بعد أن نجح في تأمين موقع ولي العهد ثمنا لتولي أخيه غير الشقيق، “خليفة”، رئاسة البلاد أعقاب وفاة الشيخ زايد الأب.

لم يكن “خليفة” حاكما حقيقيا في أي وقت، فرغم أنه ظل الواجهة الدبلوماسية في البلاد حتى إصابته بجلطة أبعدته عن الصورة عام 2014، كان “ابن زايد” هو صانع القرار الحقيقي في البلاد حتى ما قبل ابتعاد “خليفة”.

وفي الواقع فإن ولي العهد الشاب نجح خلال وقت قصير في تركيز هياكل السلطة وصناعة القرار في أيدي إخوته الخمسة الأشقاء: “عبد الله بن زايد” وزير الخارجية، و”هزاع بن زايد” مستشار الأمن الوطني السابق، وخلفه “طحنون بن زايد” مستشار الأمن الوطني الحالي، و”منصور بن زايد” نائب رئيس مجلس الوزراء وحامل المحفظة المالية للأسرة، و”سيف بن زايد” نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، إضافة إلى نجل ولي العهد “خالد بن محمد بن زايد”، نائب مستشار الأمن الوطني ورئيس جهاز أمن الدولة الذي يتم إعداده للقيام بمهام قيادية رفيعة في المستقبل.

كانت سيطرة “ابن زايد” والدائرة المقربة منه على السلطة إيذانا بتحول كبير في مسار الدولة الإماراتية بأكملها، وبوصفه قائدا عسكريا في المقام الأول، فإن رؤية “ابن زايد” تمحورت حول تشكيل قوة عسكرية قوية تكون مركزا لمشروع دولته الجديدة وتضطلع بمهام النظام بدلا من الاعتماد بشكل حصري على الرعاة الأجانب، على أن يكون هذا الجيش أيضا قادرا على إبراز القوة في وقت لاحق خارج حدود الإمارات. ومن أجل تحقيق هذه الرؤية، فإن “ابن زايد” ضخ عشرات المليارات من الدولارات في صفقات كبرى لشراء الأسلحة، لكن الحجم الجغرافي المحدود للإمارات، والنقص الملحوظ في قدراتها البشرية، والعقد الاجتماعي القائم على تقديم المنافع من الدولة إلى الشعب؛ كلها كانت عوامل فرضت قيودا قوية ومبكرة على طموحات “ابن زايد” العسكرية، ووضعته أمام معضلة كبرى لتحويل قوة عسكرية صغيرة بحكم الواقع إلى فاعل عسكري بارز على مختلف المسارح في الشرق الأوسط الكبير.

قوة واشنطن المفضلة

من أجل التغلب على هذه المعضلة، عمد “ابن زايد” لربط جيشه الصغير عسكريا بأميركا بكل طريقة ممكنة، ومنذ نهاية عملية “عاصفة الصحراء”، سمحت الإمارات للجيش الأميركي بالحفاظ على وجوده في البلاد، واستضافت سرب طائرات إعادة التزود بالوقود الأميركية التي فرضت منطقة حظر الطيران فوق جنوب العراق.

وقد تكللت جهود الإمارات في العام نفسه بالتوقيع على اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي المعروفة بـ “ديكا”، وهي اتفاقية سمحت للقوات الأميركية رسميا باستخدام المرافق الإماراتية للأغراض العسكرية، بما في ذلك قاعدة “الظفرة” الجوية في أبوظبي، والموانئ الإماراتية العميقة على الخليج وعلى رأسها ميناء “جبل علي”، وهي موانئ تحولت إلى محطات رسو حاملات الطائرات والسفن الحربية الأميركية، وقد تم تجديد الاتفاقية وتوسيعها عام 2017.

إضافة إلى ذلك، فإن الإمارات شاركت بنشاط في جميع الائتلافات العسكرية التي قادتها واشنطن منذ “عاصفة الصحراء”، بما في ذلك العمليات العسكرية في الصومال والبوسنة وكوسوفا في التسعينيات، إضافة إلى أفغانستان عام 2001، وليبيا عام 2011، وأخيرا الحملة الأميركية “الدولية” ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق والشام عام 2014، وكان الاستثناء الوحيد من هذا النهج الإماراتي المتحمس هو غزو العراق عام 2003، حيث لم تشارك الإمارات بقوات نشطة في الغزو، لكنها سمحت للجيش الأميركي باستغلال مرافقها وأجوائها في العمليات العسكرية، وبذلك فإن الإمارات أصبحت الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في 6 تحالفات عسكرية قادتها أميركا خلال العقود الثلاثة الماضية.

ومن بين كل هذه المشاركات، كانت المشاركة الإماراتية في أفغانستان مهمة بشكل خاص، حيث كانت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي شاركت بشكل مباشر في التحالف الأميركي الذي أطاح بحكومة طالبان عام 2001.

وللمفارقة فإن الإمارات نفسها كانت الدولة الثانية التي اعترفت بحكومة طالبان قبل بضعة أعوام بعد المملكة العربية السعودية، ولذا فإن هذه المشاركة بالتحديد مثّلت نقطة تحوّل في طموحات وقدرات الإمارات، إضافة إلى أجندة تهديدات الأمن القومي الإماراتية التي تحولت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول لتتمحور حول عداء الإسلاميين تماشيا مع التوجه الأميركي آنذاك.

أرسلت الإمارات قرابة 1200 جندي إلى أفغانستان، منهم 85 جنديا من القوات الخاصة، مكثوا في أفغانستان لمدة 11 عاما، كما شاركت الإمارات لاحقا في المهام الجوية -منذ عام 2012 تحديدا- من خلال ست طائرات من طراز إف-16، وكانت هذه المساهمة الإماراتية مهمة جدا بالنسبة لواشنطن لإضفاء الشرعية في حربها على “الإرهاب” ونزع صبغة الطائفية عنها، وفي المقابل فإنها كانت بمنزلة تجربة استباقية للقوات الإماراتية على خوض الحروب، حيث كانت الإمارات ترغب في إكساب قواتها خبرة عملية في ساحة معركة فعلية.

ومع ذلك، فقد حافظت الإمارات على مشاركتها في أفغانستان قيد السرية إلى حد كبير خوفا من التكلفة السياسية للمشاركة في عملية أميركية ضد بلد مسلم، لكن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في تكديس الأسلحة وإعادة بناء جيشها وقواتها العسكرية استعدادا للحظة فاصلة ستكون فيها الإمارة بحاجة إلى إبراز هذه القوة داخل أو خارج حدودها، سواء للدفاع عن مصالحها الخاصة، أو لخدمة تحالفها طويل الأمد مع واشنطن.

أعادت ثورات الربيع العربي تشكيل سياسة الأمن القومي الإماراتية لتتحول تماما عن التهديدات التقليدية القادمة من أعداء خارجيين، للتركيز الكامل على مكافحة صعود الإسلاميين

جاءت اللحظة الفاصلة والمنتظرة بالفعل عام 2011 مع قيام ثورات الربيع العربي، وهي لحظة أعادت تشكيل سياسة الأمن القومي الإماراتية لتتحول تماما عن التهديدات التقليدية القادمة من أعداء خارجيين، إلى التركيز الكامل على وأد الاضطرابات الداخلية المحتملة ومكافحة صعود الإسلاميين، وقد وفر الأمن النسبي للإمارات من الاضطرابات الداخلية، إضافة إلى الفراغ السياسي المتزايد الذي خلفته الفوضى في الدول العربية الكبرى؛ وفرا فرصة للإمارات للصعود وإبراز قوتها المالية والسياسية والعسكرية التي راكمتها على مدار العقود الماضية.

مرتزقة إسبرطة

من أجل ممارسة هذه القوة، فإن الإمارات كانت بحاجة إلى ضخ كل قوة بشرية ممكنة داخل جيشها الذي ظل يعاني رغم تدريبه وتسليحه من مشكلة محدودية العدد، وهو ما دفع البلاد عام 2014 إلى فرض التجنيد الإجباري على الشباب لفترة تتراوح بين تسعة أشهر لذوي المؤهلات العليا، وعامين لمن لم يحصل على مؤهل، فضلا عن السماح بالتجنيد الاختياري للفتيات الراغبات.

غير أن السماح بتدفق المجندين الوطنيين لا يخلو من مخاطره أيضا، فلطالما كان لملكيات الخليج مخاوفها القوية من تأسيس جيوش نظامية تعتمد على نخبة مواطنيها، وهي مخاوف تعود إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية خلال الخمسينيات والستينيات، حين أنهت الجيوش الوطنية حكم الملكيات في العديد من دول الشرق الأوسط الكبرى وخاصة في مصر والشام، وهو ما جعل ملكيات الخليج مترددة في الاستثمار في إنشاء جيوش قوية، وبدلا من ذلك فإنها لجأت للاعتماد على الحماية الخارجية.

تعود هذه المخاوف بالأساس إلى التغييرات البيروقراطية المرتبطة بالتجنيد الإلزامي، والذي يتطلب بالضرورة تدفق العديد من المجندين والضباط من الطبقات الفقيرة والمتوسطة وربما من الأقليات الدينية (الشيعة) على سبيل المثال، وقد ينتهي الحال بهؤلاء إلى مصاف قيادات الجيش.

ومع تزايد احترافية هذه الجيوش، أو انخراطها في عمليات عسكرية حقيقية سواء داخل الحدود أو خارجها، فإن النخب العسكرية التقليدية غالبا ما يبزغ نجمها على حساب النخب السياسية التقليدية وفي مقدمتها الأمراء والملوك، وهو ما قد يغري الطبقة العسكرية في نهاية المطاف للسيطرة على السلطة حال تحينت الفرصة.

ونتيجة لذلك، فإن دول الخليج عمدت إلى استخدام تكتيكات غير تقليدية لمنع ظهور طبقة عسكرية محلية، مثل توزيع القوة الأمنية العسكرية بين أكثر من مؤسسة، كما فعلت السعودية التي قسمت قوتها بين الجيش ومؤسسة الحرس الوطني والأجهزة الشرطية، أو الاعتماد على الجنود المستوردين من الخارج، من يعرفون بـ “المرتزقة”، وهو خيار فضّلته الإمارات بشكل كبير.

يعد المرتزقة في الواقع “خيارا جذابا للغاية للدول الغنية لشن الحروب التي لا يرغب مواطنوها في شنها”، كما يقول شون ماكفيت مؤلف كتاب “المرتزقة الجدد والنظام الدولي”، وينطبق ذلك أفضل ما ينطبق على الإمارات وولي عهدها “ابن زايد”، من لم يجد غضاضة في الإفصاح يوما بأنه “لا يثق بجيشه الوطني أو في ولائه للأسرة الحاكمة”، وفق ما جاء في برقية ويكيليكس، برقية حملت تفاصيل حوار “ابن زايد” مع مساعد وزير الخارجية الأميركي “وليام بيرنز” عام 2007، ونتيجة لذلك، فإن الإمارات اعتمدت في وقت مبكر في تكوين جيشها على الأجانب، حيث تشير التقديرات إلى أنه خلال التسعينيات كان ثلث قوات الجيش الإماراتي من الأجانب المأجورين.

ولكن الجيش الإماراتي شهد في العقد الأخير توسعا ممنهجا بالاعتماد على المرتزقة في أداء المهام الأمنية لصالح الحكومة سواء داخل أو خارج حدود الدولة، وكانت تجربة الإمارات الأولى في عالم المرتزقة في الصومال، حين استعانت أبوظبي بخدمات إمبراطور المرتزقة العالمي ومؤسس شركة “بلاك ووتر” سيئة السمعة “إريك برنس” لتدريب 200 شخص، من الموالين للحكومة الصومالية، عبر شركة لخدمات المرتزقة الأمنيين ذات أصول جنوب أفريقية تُدعى “ساراسن الدولية”، على أن تتحمل أبوظبي الفاتورة كاملة والتي قُدّرت آنذاك بـ50 مليون دولار.

وفيما يبدو، فإن النجاح الأوّلي الذي حققته مغامرة مقديشيو قد أغرى الإمارات بتوسيع التجربة، وبحلول عام 2010 كان إريك برنس قد قرر الاستقرار في أبوظبي لممارسة أعماله الجديدة من داخل الإمارة.

ولم تكن هذه الأعمال سوى شركة غامضة جديدة تُدعى “ريفليكس ريسبونس” يقودها “برنس” ويمتلك الإماراتيون معظم أسهمها، وسرعان ما أثبت مرتزق الحروب الأميركي أنه كان عند حسن حظ أولياء نعمته الجدد، بعد أن نجحت شركته في تجنيد المئات من المرتزقة من الأفارقة والكولومبيين والأوروبيين الذين تدفقوا إلى أبوظبي في إحدى ليالي عام 2010 بوصفهم عمال بناء، ليستقروا خلف الجدران الخرسانية لمدينة الشيخ زايد العسكرية في أبوظبي.

من الناحية العملية؛ يمكن لفِرَق المرتزقة الإماراتية القيام بكل شيء ممكن، من الحفاظ على وحماية منشآت النفط وناطحات السحاب، إلى إخماد الاضطرابات العمالية والثورات الشعبية المحتملة حال تطلب الأمر ذلك، وبالتأكيد فإن بإمكانهم أيضا خوض الحروب الخارجية، وهو ما حدث بالفعل حين أرسلت الإمارات مئات المرتزقة للمشاركة في المهام القتالية في الخارج.

لكن المهمة والميزة الأكبر لتوظيف المرتزقة أنهم خيار يسمح للقيادة السياسية بضمان السيطرة على ولاء القوات العسكرية من قِبل جنرالات أجانب لا يحملون دوافع وطنية ولا همَّ لهم إلا المال، كما يسمح لهم بالاشتباك مع مهام أمنية حساسة دون المخاطرة بتوريط الجنود الوطنيين في عبور الخطوط الحمراء الاجتماعية والطائفية للدولة، وهو ما يفسر ولع أبوظبي بتجنيد المرتزقة في صفوف الأمن الداخلي للقيام بمهام القمع داخل السجون الإماراتية.

جيش الإمارات الأميركي

كانت الخطة كما رُسمت في عقل ولي عهد أبوظبي بسيطة للغاية: جيش هجين من المقاتلين الوطنيين والمرتزقة الأجانب، يتولى فيه الأجانب المواقع القيادية مع تدريب فعال وتسليح عالي المستوى، وهنا كان على الإمارات أن تستعين من جديد بخدمات حليفها القريب، الولايات المتحدة، والتي من جانبها هي الأخرى كانت سعيدة بوجود شريك أمني راغب في المشاركة في أداء المهام الشرطية الأميركية بالشرق الأوسط تحت إشراف الضباط الأميركيين.

ونتيجة لذلك، فإن الجيش الأميركي يُشرف بشكل منظم على تدريب الضباط الإماراتيين، حيث يذهب 800 من العسكريين الإماراتيين سنويا للتدريب العسكري في الولايات المتحدة، بينما تشارك الإمارات في مجموعة من التدريبات السنوية المشتركة بالتعاون مع القوات الأميركية، حيث يشارك الطيارون الإماراتيون بشكل سنوي في تدريبات “العلم الأحمر” في قاعدة نيليس الجوية في نيفادا، وهي التمرينات الجوية القتالية الأفضل في العالم، كما يشارك الطيارون الإماراتيون في مناورات “العلم الأخضر” التي تركز على العمليات الجو أرضية، ويشارك الحرس الرئاسي الإماراتي في تدريبات منتظمة مع مشاة البحرية الأميركية “المارينز”.

إضافة إلى ذلك، فإن وحدات الجيش الإماراتي الأخرى تنخرط في تدريبات منتظمة مع نظيرتها الأميركية، مثل تمرينات “أيرون يونيون” للقوات البرية، ومناورات “الأسد المتأهب” التي تعقد بشكل سنوي في الأردن بمشاركة 20 دولة، وأيضا مناورات “تحية النسر” وهي مناورات بحرية تُقام في البحر الأحمر منذ عام 1991 وتشارك فيها الولايات المتحدة ومصر بالإضافة إلى الإمارات.

وفي حين يبلغ قوام الجيش الإماراتي اليوم قرابة 63 ألفا من المجندين والضباط، إضافة إلى أكثر من 40 ألفا من قوات الاحتياط والقوات شبه العسكرية، فإن القوات الجوية التي تضم أكثر من 4500 شخص تعتبر الجزء الأكثر أهمية من الجيش الإماراتي، وهي مسلحة بنحو 540 طائرة، منها 138 طائرة مقاتلة (78 طائرة إف-16 أميركية الصنع و60 طائرة ميراج 2000 فرنسية الصنع)، وهي مسلحة أيضا بالصواريخ المتطورة مثل صواريخ “سايد ويندر” الحرارية قصيرة المدى، وحتى صواريخ “أمرام” طويلة المدى ذات التوجيه الراداري النشط.

وفي الوقت نفسه، فإن القوة الجوية الإماراتية تدير بضع مئات من المروحيات القتالية ومروحيات الإمداد والنقل المتطورة من طرز “أباتشي” و”بلاك هاوك” و”تشينوك”، وهي تعمل جنبا إلى جنب مع القوات الجوية الأميركية في قاعدة الظفرة الجوية، وهي القاعدة الأميركية الوحيدة خارج الحدود التي تستضيف مقاتلة الجيل الخامس الشبحية من طراز “إف-22 رابتور”.

ولكن، ورغم هذا التعاون الجوي واسع النطاق، فإن الولايات المتحدة لا تزال مترددة في قبول طلب الإمارات بالانضمام لبرنامج الطائرة المقاتلة الشبحية الأحدث في العالم “إف-35″، ويرجع ذلك التردد لالتزام واشنطن بسياسة الحفاظ على التفوق النوعي لإسرائيل على الإقليم، وهو ما دفع الإمارات للتنويه لاحتمالية شرائها المقاتلات الروسية البديلة من طراز “سوخوي سو – 35″، وفقا لما ذكرته وسائل إعلام روسية، لكن هذا التوجه يبقى مستبعدا من الإمارات على كل حال نظرا لتماهيها الكامل مع واشنطن وعدم قابليتها للاستغناء عنها أو إثارة توتر سياسي وعسكري عميق بصفقة كتلك.

ويبقى الجانب البري من القوات المسلحة الإماراتية هو الأقل اعتمادا على المصنوعات الأميركية، وفي هذا الشق فإن الإمارات تمتلك ما لا يقل عن 500 دبابة، منها 380 دبابة على الأقل من طراز “لوكلير” فرنسية الصنع، كما تمتلك البلاد أكثر من ألفي عربة مدرعة تتنوع بين المدرعات الروسية والمركبات المدرعة الفنلندية “باتريا”، والجنوب أفريقية “رينو جي-6” إضافة إلى مدرعات “كايمان” البريطانية، كما تحتفظ القوات الإماراتية أيضا بنحو 117 نظاما مدفعيا ذاتي الحركة، وعشرات القذائف المدفعية من طراز “تاو”.

وفي الشق البحري، تدير الإمارات أسطولا بحريا مكونا من نحو مئة قطعة مع قوة بشرية يبلغ قوامها نحو 2500 فرد، وتمتلك البحرية الإماراتية حاليا نحو 14 فرقاطة و10 غواصات و24 قاربا دفاعيا ساحليا و28 مركبة برمائية وكاسحتَيْ ألغام، وهي تولي اهتماما خاصا لتطوير قواتها البحرية مع انخراطها في العديد من الأنشطة البحرية خارج حدودها، حيث ترتبط بعقد مع شركة تاليس الفرنسية لتطوير القدرات الإلكترونية للسفن والغواصات، كما تعاقدت عام 2017 مع شركة “رايثيون” الأميركية للحصول على نظام حماية من الصواريخ المضادة للسفن، فضلا عن ارتباطها بعقود أخرى مع شركات فرنسية وهولندية لصناعة سفن دورية بحرية.

وتعد القوات البحرية على وجه التحديد مهمة للإمارات بشكل خاص، منذ وضعت أبوظبي نصب أعينها تأسيس وجود عسكري لها حول مضيق باب المندب، منذ مشاركة الدولة العسكرية الأولى صحبة واشنطن في الصومال مطلع التسعينيات، وهي المشاركة التي أغرت الإمارات للمرة الأولى لإبراز قوتها في القرن الأفريقي، خاصة أن إبراز النفوذ الجغرافي جنوب شبه الجزيرة العربية كان دوما جزءا من الرؤية الإستراتيجية الإماراتية، التي ترى أن مجال تأثيرها البحري يمتد من الهند وجزر المالديف إلى طول الساحل الشرقي لأفريقيا نحو زنجبار وما وراءها.

ونتيجة لذلك، كانت الحرب في اليمن بالنسبة إلى الإمارات فرصة إستراتيجية لا تُقدّر بثمن، ليس لدحر الحوثيين أو استعادة الحكومة أو حتى تحجيم الإسلاميين وغيرها من الأسباب المعلنة والدعائية، ولكن لتحقيق طموحها الإستراتيجي في تأمين قوس للنفوذ يمتد من جنوب الخليج إلى البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

لذا فإن الإمارات عملت خلال الأعوام الأربعة الماضية على تكديس هذه المضايق والخلجان داخل القوس بالعديد من القواعد والمنشآت العسكرية، بداية من “عدن” و”سقطرى” و”ميون” في اليمن، ومرورا بـ “عصب” في إريتريا، وليس انتهاء بـ “بربرة” و”بوصاصو” في الصومال.

ينسجم هذا التوسع العسكري المتنامي أيضا مع رؤية أبوظبي للتهديدات المستقبلية القادمة من البحر بالنسبة لأمن بلد يعتمد اقتصاده بشكل كلي على البحار، سواء لنقل النفط أو لحركة الشحن والتجارة، ونتيجة لذلك فإن الإمارات لطالما امتلكت هاجسا طويل الأمد من التفوق النوعي للبحرية الإيرانية والوجود البحري لإيران في القرن الأفريقي وحول خليج عمان، فضلا عن التهديدات المتجددة من قِبل القراصنة على ساحل الصومال، وكلها عوامل دفعت أبوظبي للانخراط في سباق للتسلح، سباق كان من وجهة نظرها سباقا من أجل الوجود قبل أن يكون لأجل الهيمنة.

إضافة إلى ذلك فإن الوجود العسكري المكثف في هذه المنطقة يسهل على الإمارات ممارسة دورها المفضل، خلال حقبة ما بعد الربيع العربي، كصانع حقيقي للملوك في حزام من الدول الهشة والأنظمة السياسية غير المستقرة، وهي دول تعتبرها الإمارات اليوم عمقا أمنيا لها، خاصة في ظل السباق الجيوسياسي المعقد الذي تتنافس فيه أبوظبي مع مجموعة من اللاعبين الإقليميين، وعلى رأسهم تركيا التي تمتلك بدورها طموحها ونموذج أعمالها الخاص في المنطقة القائم على التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية، وهو نموذج أثبت نجاحه في الفوز بالقلوب والعقول ما مكّن أنقرة من تطويره إلى شكل من أشكال القوة الخشنة المقبولة عبر افتتاح قاعدة عسكرية في الصومال.

إذن، فإن لعب دور “إسبرطة الصغيرة”، وهو اللقب الذي أُطلق على الإمارات للمرة الأولى من قِبل وزير الدفاع الأميركي السابق “جيمس ماتيس” كنوع من الإشادة بدورها في خدمة المصالح الأميركية، فإن لعب هذا الدور في منطقة القرن الأفريقي ينسجم تماما مع الأولوية الإستراتيجية الدائمة للعسكرية الإماراتية، وهي عسكرية بدأت أميركية الهوى منذ نشأتها الأولى، فمع دخول الصين وروسيا إلى لعبة القوى في عدن وباب المندب، وتنامي نفوذ بكين على وجه التحديد عبر القوس الشمالي للمحيط الهندي بسرعة في موانئ مثل “غوادر” في باكستان و”شابهار” في إيران و”الدقم” في سلطنة عمان، إضافة إلى ميناء “جيبوتي” مرورا بشرق أفريقيا ووصولا إلى سريلانكا، مع تنامٍ كهذا فإن الصين قد نجحت في بناء شبكة مثيرة من الموانئ والمنشآت البحرية في شمال غرب المحيط الهندي، وهو ما يتيح بالضرورة لجيش التحرير الشعبي الصيني الكثير من أماكن الرسو في المناطق البحرية الرئيسة حول الجزيرة العربية، وفي هذا السياق فإن الوجود الإماراتي في هذه المنطقة يعد جزءا أيضا من إستراتيجية واشنطن الكبرى لاحتواء النفوذ الصيني العالمي.

لكن الإمارات تعلم أن عليها أن تلتزم الحذر في مقاربتها مع الصين على وجه التحديد، فرغم كون واشنطن تبقى الضامن الأمني الرئيس والمورد الأول للسلاح لدول وجيوش الخليج، فإن الحضور الصيني يتزايد باستمرار، وقد أصبحت بكين في الأعوام الأخيرة موردا رئيسا للأسلحة لجيوش الخليج أيضا، خاصة الطائرات بدون طيار المسلحة والأنظمة الصاروخية التي تتردد واشنطن في منحها لهم، وستبقى الإمارات بحاجة إلى الأسلحة لسد بعض المتطلبات الإستراتيجية لتوسعها العسكري، فضلا عن حاجتها إلى الحفاظ على فرص التكامل الاقتصادي مع بكين التي تفرض نفسها لاعبا اقتصاديا محوريا في المنطقة بفضل خطة الحزام والطريق.

وقبل ذلك كله، فإن صناع القرار في أبوظبي، بلا شك، يدركون تلك الظروف الفريدة التي منحت “محاربي ماتيس العظماء” كما يُطلق عليهم فرصة لعب دور عسكري ريادي فوق مسرح الشرق الأوسط شديد التعقيد، في ظل غياب إجباري للعديد من القوى الإقليمية الكبرى، وهي لعبة كبرى وصعبة للغاية اختارت أبوظبي أن تلعبها بأسلحة عالية تقنية يحملها جنود مدربون كثير منهم من المرتزقة، لكن ما يغيب عن النظام الإماراتي و”ابن زايد” هو أن بلاده ربما تكون قد ملأت فمها بأكثر مما يمكنها مضغه، وأن التوسع العسكري الذي تم تصميمه لحماية السلطة أولا يمكن أن يرتد عليه في النهاية، وربما بالطريقة نفسها التي كان يرغب في تجنبها منذ البداية وحتى الآن.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام الموقع ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، ولتحليل حركة الزيارات لدينا.. المزيد
موافق