بقلم - د. صادق القاضي
عندما رفع “بابا روما” “أوربانوس الثاني”، شعار “تحرير الأراضي المقدسة”، كانت القوى الأوروبية الكبرى جاهزة مسبقاً لتلبية دعوته، والانخراط في الحروب الصليبية لخدمة مصالحها الواقعية المحددة سلفاً، والتي أشار البابا إلى بعضها في خطابه التاريخي الشهير أمام “مجمع كليرمون” 1095م.
كان الغرب المسيحي يعيش حينها أوج أزماته السياسية والدينية والاقتصادية والأمنية، التي كان لابد أن يتحدث عنها البابا، كالبحث عن وطن بديل وغني يحل مشكلة الكثافة السكانية والفقراء الذين تكتظ بهم دول كفرنسا، بينما “أرض كنعان تفيض لبناً وعسلاً”، وعن البطالة ودورها في تفشي العنف والجريمة، وأن “الحل هو تحويل السيوف لخدمة الرب: دعوا اللصوص يصبحوا فرساناً”.
بجانب ذلك، كان دعم بيزنطا في مواجهة تهديد السلاجقة المسلمين، والبحث عن طريق تجاري لأوروبا عبر البحر الأحمر، إلى الهند، فضلاً عن رغبة البابا بتوحيد الكنيستين، تحت سلطته البابوية، كـ”رئيس أساقفة العالم”.. تشكّل الأجندة الحقيقية للحملة الصليبية الأولى(1096م–1099م).
لم يكن “أوربانوس” أول من رفع شعاراً جهادياً دينياً لأهداف سياسية دنيوية خالصة، ولن يكون الأخير، وفي كل حال، كانت أوروبا حينها تبحث بإلحاح عن طريق للخروج من أزماتها الداخلية المستفحلة، ووفر لها البابا هذا الطريق “الطريق إلى القدس”، الذي ظل لفترة طويلة وسيلة ثابتة لغايات تغيرت مراراً بتغير الحملات وأهدافها في كل مرة.
كان شعار الحملة الصليبية الرابعة (1201-1204): “الطريق إلى القدس يمر عبر مصر”. لكن، لأن مصر كانت عصية على روما أكثر من بيزنطا، تغير شعار الحملة، إلى “الطريق إلى القدس يمر عبر بيزنطا”. وتم إسقاط بيزنطا بالفعل، لصالح روما، وبعد سقوطها تبيّن جلياً أن بابا روما كان يقصد أن “الطريق إلى بيزنطا يمر عبر القدس”!
لاحقاً، وفي الجانب الآخر، بحث نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، عن “الطريق عبر القدس”، ربما قبل أن يبحثا عن “الطريق إلى القدس”. لا مجال للتشكيك بالنوايا، ويبدو أن الاستيلاء على سوريا ومصر، وتوحيدهما في دولة عظيمة، ربما كان ضرورياً لتمهيد الطريق إلى القدس، وفي الأخير نجح صلاح الدين -كالبابا أوربان- في عبور الطريقين.
كان للشعار المقدس مفعول سحري في التحشيد والاستقطاب والترويج لتلك الحروب بأهدافها السياسية المقنّعة بشعار ديني ظل يحتفظ طويلاً بغوايته التي يُفترض أن تنتهي في العصر الحديث. لكن، وفي مقابل أنها أصبحت في الغرب جزءاً ساخراً من التاريخ، ماتزال في العالم الإسلامي رائجة، وبمفعولها السحري القديم!
بمجرد نجاح الثورة الإسلامية في إيران بالسيطرة على السلطة 1979م، رفع الزعيم الشيعي الراحل “آية الله الخميني”، شعاره الشهير: “الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء”.
كان الغرب قد زج العراق ضد إيران في حرب بالنيابة. لكن الأهم أن الخميني وجد تلك الحرب فرصة ذهبية للتنصل من مسؤولية الفشل والقمع الداخلي. ليس فقط بحجة الدفاع عن إيران، بل بالجهاد من أجل تحرير الأراضي المقدسة، ما يمكّنه من الاتّكاء على أكذوبة طويلة الحبال!
في الجهة الأخرى، لاحقاً، رفع “صدام حسين” الشعار نفسه، لكن باستبدال كربلاء بطهران. الأعداء يشبهون بعضهم أكثر مما يتصورون، لكن طهران كانت بعيدة ككربلاء عن متناول الخصم، وعندما توقفت تلك الحرب، كما بدأت تقريباً، سرعان ما بحث الطرفان، كلٌّ على حدة، على حرارة النزعات التوسعية، عن بلدان أخرى على طريق القدس.
من ناحيته، قام “صدام حسين” باجتياح الكويت 1990م، ولم ينسَ إطلاق عدة صواريخ على إسرائيل، فتحمس له الكثيرون، بل دعاه بعضهم لاجتياح بقية دول الخليج، وتوحيد العالم العربي، لاستعادة القدس. كما لو أن الطريق إلى القدس يمر أولاً عبر الكويت!
بدورها، توجهت إيران للبحث عن طرق أخرى تؤدي إلى القدس، منها بيروت ودمشق وصنعاء. وقد نجحت، في وقت مبكر، في الوصول إلى لبنان، وتكبيل القرار اللبناني بمزاج الملالي، وجعل بيروت حديقة خلفية لقصر آية الله في طهران.
ومن بيروت، صرح “حسن نصر الله”: “الطريق إلى القدس يمر عبر القلمون والزبداني ودرعا وحلب”. لقد تمكنت إيران في السنوات الأخيرة، من التدخل، بشكل أعمق ومباشر، في سوريا، بحجة دعم نظام الأسد حليفها التقليدي، أو -بحسب تعبير حسن نصر الله- لأن سوريا تقع في الطريق إلى القدس.
على الصعيد اليمني، صرح “علي أكبر ولايتي”، مستشار خامنئي، بأن “الطريق إلى القدس يمر عبر اليمن”. وعبر خارطة الطريق التي رسمتها إيران لليمن، ونفذتها أدواتها الجهادية الحوثية، وصلت اليمن إلى البوابة الخلفية للجحيم!
لا أسوأ من جعل الطريق إلى الله طريقاً إلى السلطة أو الثروة أو النفوذ، ولا أخطر من توظيف القضية الفلسطينية وقدسية القدس بطريقة انتهازية للتلاعب بمشاعر البسطاء، وابتزاز الأنظمة، وخدمة أجندات ومشاريع سياسية قذرة تلوث البيئة الدينية والسياسية والفكرية، وتزيف القضايا الحقيقية لشعوب ودول المنطقة.
اليمن ولبنان وسوريا والعراق ومصر وإيران ودول الخليج.. اليوم ودائماً.. بحاجة ماسة لخارطة طريق للخروج من أزماتها، لا أن تكون هي جزءاً من خارطة طريق إلى بلاد أخرى، حتى القدس.
القدس نفسها، وبدورها، تحتاج إلى خارطة طريق للخروج من وضعها الاستثنائي الصعب، لا أن تكون طريقاً ذرائعياً لأنظمة شمولية تسعى من خلال قضيتها العادلة للاستحواذ بطريقة غير عادلة على نفوذ ومصالح مشبوهة في بلدان أخرى.
الطريق إلى القدس ليس محفوفاً دائماً بحسن النوايا، ولا تتوقف القضية على مستوى الأنظمة، بل بدرجة أولى على مستوى التنظيمات السياسية وجماعات الإسلام السياسي، وحتى الأفراد.. الذين يزايدون بقضية القدس، ويعبرون من الطريق إليها إلى مصالح انتهازية مشبوهة، وهو ما لم يتطرق إليه “محسن محمد صالح”، في كتابه “الطريق إلى القدس”، وهو يرصد “رصيد التجربة الإسلامية على أرض فلسطين”، من ناحية حجم الثروات الهائلة والمصالح المادية والسياسية والشعبية المهولة التي استحوذ عليها الإسلاميون عبر هذا الطريق الملائكي المحفوف بالشياطين والدراكيولات والقراصنة.