تحقيق المجاز

محرر 28 يونيو 2017
محمد جميح
محمد جميح
محمد جميح
محمد جميح
بقلم - محمد جميح
المجاز هو المقابل اللغوي للحقيقة، هو الحلم مقابل اليقظة، المثال بمواجهة الواقع، الماضي بموازاة الحاضر، أو التاريخ بمسافته المجازية، إزاء الحاضر بتجسده الحقيقي.
 
 
وعلى اعتبار أن التاريخ مجاز فإن «المشكلة الأصولية» اليوم تتجسد في أنها تسعى إلى تحويل هذا «المجاز التاريخي» إلى حقيقة واقعية، وهذا هو مأزق العقل الجمعي الأصولي اليوم.
نظرة إلى «الأداء اللغوي» لقيادات في تنظيم «الدولة» أو «القاعدة» أو بعض القيادات الأصولية الأخرى، نظرة إلى طريقة اللباس، المظهر الخارجي، الطقوس الخطابية، طرائق التعاطي الفكري والوجداني، نظرة سريعة على كل ذلك، تنكشف عن حنين متواصل لدى هذه الفئات إلى تحقيق مجازات التأريخ على أرض الواقع. 
هذا الحنين المتواصل لتحقيق المجاز، يعكس البعد السطحي في التناول، إذ أن عمليات تحقيق المجاز لدى «العقل الأصولي» تعمد إلى إحضار التاريخ متمثلاً في جلبابه فقط، أو الماضي في عباءته ليس إلا، دون النفاذ إلى روح الماضي، وتمثل مقاصد الحياة الكبرى في حركة هذا التاريخ وسيروراته اللامتناهية.
«التاريخ مجاز»، وعندما نقول إن التاريخ مجاز فهذا لا يعني أنه لم يكن حقيقيا، أو أنه كان عبارة عن رواية إبداعية، ولكن ذلك يعني أن ما لدينا منه اليوم هو صورته، التي تتم دائماً إعادة إنتاجها وهي صورة مجازية، بمعنى أن التاريخ بمعناه الماضوي يصبح مجازاً عندما يكون جزءاً من الماضي، وما السعي لإعادته إلى الحاضر في نسخته الكربونية، إلا محاولات بائسة لتحويل المجازات البعيدة إلى حقائق محسوسة.
نعود للقول إن مشكلة نقل «جلباب التاريخ» من دون نقل المفاهيم القيمية، لا تؤدي إلى «تحقيق المجاز» بنقل الماضي إلى الحاضر، قدر ما هي محاولة مفلسة لترحيل اليوم إلى الأمس، أو عملية فقيرة تعكس محاولات «جلببة الحاضر» التي تؤدي إلى نوع من الخدر العاطفي اللذيذ، لدى من يقومون به، على أساس أنهم أدوا ما عليها، وقاموا بواجباتهم في تطبيق مثاليات «خير القرون» – حسب الفهم الأصولي لهذه المثاليات الدينية – على أتم وجه، ناسين أن لبس الجلباب لا يعني بعث الإسلام من جديد. وبعبارة أخرى فإن أولئك الذين يريدون سحب القرن الهجري الأول من جلبابه إلى القرن الرابع عشر، عادوا هم للعيش في الماضي، دون أن يتمكنوا من نقل هذا الماضي إلى واقعهم المعيش. وفي الوقت الذي يظن أصحاب «جلببة الحاضر» أنهم بعثوا الماضي من جديد، فإنهم لم يفعلوا أكثر من الهروب – على المستويات الوجدانية والمعرفية – من العصر الرقمي المعقد إلى بساطة العصور الماضية، في الوقت الذي يكتب الواحد منهم محاضراته على لوحة الآيباد ويسجلها على ذاكرة الآيفون. 
جناية هذه الطريقة في التفكير، أنها ليست مجرد محاولة عدمية لتحقيق المجاز وحسب، ولكنها كذلك تؤدي إلى عمليات واسعة لتجريف الحاضر لصالح الماضي، وهذا يؤدي إلى ضعف المنتج الفكري والإبداعي والمعرفي، واجترار الأفكار ذاتها التي تم ترديدها في الماضي، من دون أدنى اعتبار لحركة التاريخ وشروط التحديث والمعاصرة.
وفي هذا الخصوص يمكن القول إن «العقل الأصولي» عمد إلى عمليات مركبة تم بموجبها «تثبيت» كم ضخم من «المتغيرات» بالتزامن مع «تغيير» كم هائل من «الثوابت»، مع ادعاء الحرص على هذه الثوابت والتكيف مع المتغيرات. 
ما جرى بكل بساطة هو أن محاولات نقل الماضي إلى الحاضر، حلت محل السياق الطبيعي، الذي بموجبه يتحرك الزمن ليصبح الماضي ماضياً والحاضر حاضراً، وهو الأمر الذي أدى إلى «تثبيت المتغيرات» و»تغيير الثوابت» لدى الأصوليين، الذين انصب جل جهدهم على التعامل مع المظهر الخارجي لشخصيات التاريخ على أنه ثابت لا يمكن تغييره، بينما تم النظر إلى ثوابت الإسلام من مثل الدعوة إلى إمعان النظر وإعمال العقل والإشادة بقيم الخير والعدل والحريّة والمساواة، وممارسة الشورى، التي تتقاطع مع المحتوى الديمقراطي لتطوير أنظمة الحكم في العالم الإسلامي، تم التعامل مع هذه الثوابت على أساس أنها ضرب من المتغيرات غير المهمة، كما أن الثوابت الأخلاقية والقيم الروحية لم تحظ لدى العقل الأصولي بكثير من الاهتمام الذي حظيت به ممارسة عادات وتقاليد وأعراف القرن السابع للميلاد، يوم كان للعرب عادات اجتماعية وثقافية معينة تخص جيلا معينا عاش في مكان وزمان معينين، من دون أن تكون تلك العادات جزءاً من الثوابت الدينية: العقدية أو التعبدية.
والمدهش هنا أن «السلوك الأصولي» في الوقت الذي يرى أنه يسير عبر الطريق الصحيح، وفِي الوقت الذي يرى أن تفسيره للإسلام هو التفسير الأنقى، لأنه تفسير «السلف الصالح» أو فهم «خير القرون»، فإن هذا السلوك يعمد إلى مخالفات كبيرة لجوهر الإسلام القائم على الاجتهاد ومراجعة سُنن التغيير، والتفاعل مع حركة التاريخ. واحدة من أهم المقولات الأصولية ـ مثلاًـ هي أن «الإسلام صالح لكل زمان ومكان»، ولكن في تمحيص الأداء الأصولي، نجد أنه يناقض تماماً هذه المقولة، ذلك أن محاولات جلب فهم وممارسة وثقافة وأعراف القرون الأولى إلى العصر الحديث تعني نقض مقولة «صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان»، لأن فرض تفسير قديم للإسلام، يعني ان الإسلام ينتمي إلى ما قبل أربعة عشر قرنا، ولا علاقة له بالحاضر، وهذا ما يعد ضرباً من التجديف المخالف للإسلام.  
صحيح ان بعض الأداء الفكري الأصولي يقول إن معنى «فهم الإسلام على طريقة السلف» يختص بطرائق العبادة ومفاهيم العقيدة، وغير ذلك مما يعد في ثوابت الإسلام التي لا تتغير، غير أن ذلك يظل مجرد قول، يفشل عند الممارسة التي تؤكد على أن القول باتباع السلف يعني نقل المظاهر الشكلية للقرن السابع الميلادي، أو الأول الهجري بحذافيرها على مستوى الأعراف الاجتماعية والمظاهر الفلكلورية، ناهيك عن طرائق التفكير ومناهج الدراسة.  
إن القول بـ»صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان» لا يتسق مع مقولة «فهم الإسلام على منهج السلف»، لأن فهم السلف خاص بهم، متأثر بالظروف الموضوعية التي عاشوا فيها قبل مئات السنين، وإذا ما أراد الأداء الفكري الأصولي التمسك بمبدأ صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فعليه أن يرفع القيود عن حرية التفكير التي يمكن أن تبدع نموذجنا المعاصر، وفهمنا الحديث للإسلام الذي يتسق مع ثوابته ويخرج عن متغيراته التي كانت على ايّام الجيل الأول من المسلمين. 
وكما كان للسلف فهمهم للنصوص يجب أن يكون للخلف من بعدهم فهمهم الخاص، الذي إذا خرج عن فهم السلف على مستوى دوائر الاجتهاد، فإنه لا يشكل خروجاً على الإسلام. بمعنى أن الخروج على قواعد السلف لا يعني خروجا على الإسلام، أو أن الخروج على «المنظومة الاجتماعية» للقرن الهجري الأول لا يعني الخروج على «المحتوى العقدي» للإسلام. بهذا الفهم يمكن للمسلم الْيَوْمَ ان يكون مسلماً صالحاً، وأن يكون مواطناً ديمقراطياً، أن يكون مؤمنا مخلصاً لدينه، ويكون إنسانا متعايشا مع غيره، في زمن العولمة الاقتصادية والاجتماعية، لأن المسلم هنا سوف يبتكر فهمه الخاص به، الذي لا يتناقض مع جوهر الدين ومحتوى العقيدة وإن خالف بعض ما عليه السلف الصالح من فروع لا ترقى إلى مستوى الثوابت والأصول. 
وعلى ذكر «الأصول» فان تسمية “الأصوليين” بهذه التسمية هنا تعد ملتبسة لأن هذه التسمية توحي بربطهم بأصول الدين ومقاصده الكبرى، فيما ينحسر البحث في أدائهم الفكري والعملي عن بعد كبير بينهم وبين أصول الإسلام وقواعد الدين، إلا ما يتعلق بتمسكهم الشديد بالفروع والمتغيرات، ومن هنا فإن تسمية الأصوليين لا تنطبق عليهم، إلا من قبيل الدعوى العريضة التي يصعب في كثير من الحالات إثباتها، والأصح في نظري أن يطلق عليهم تسمية «الفروعيون» بدلا من «الأصوليون» لارتباطهم بالفروع لا بالأصول.
والخلاصة: على «العقل الأصولي» اليوم التمييز بين الثابت والمتحول في تراثه الديني، لكي يتخلص من هذه الازدواجية المرضية التي بموجبها يعيش في القرن الواحد والعشرين، في وقت يحلق فيه بعيداً في فضاءات القرن السابع للميلاد.
وباختصار فإن الخروج من جلباب القرن الهجري الأول لا يعني بحال الخروج من روح الدين، كما ان تجاوز متغيرات التاريخ لا يحتم التمرد على ثوابت الإسلام.
نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام الموقع ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، ولتحليل حركة الزيارات لدينا.. المزيد
موافق