عودة ميكافيلي” والوعي الإشكالي

محرر 217 ديسمبر 2018
عودة ميكافيلي” والوعي الإشكالي

كتب/د. أحمد بوغربي

“إن الموضوع الذي يضيع منا هو بالضرورة مختلف كليا عن الموضوع الذي يلاحقنا”. رولان بارت
يصيغ القاص الصادق أورهان في مجموعته القصصية سردا يعكس نسيج الحياة بكل تعقيداتها النفسية، والاجتماعية، والسياسية، والجمالية، وقد جاءت قصص المجموعة، مهووسة بمساءلة المجتمع، وملاحقة تناقضاته وصراعاته، وكشف المخبوء والمستتر عليه، مستثمرة في ذلك معظم إفرازاته الواقع.
قراءة في العنوان:
تفصح المجموعة عن رؤية انتقاديه للواقع بدءا من العنوان “عودة ميكافيلي”، فإذا كانت العودة تعني الرجوع والإياب، فإن ميكافيلي هو ذاك الفيلسوف الذي اقترن اسمه بالاستبداد، والذي حرض في كتابه “الأمير” المستبدين، ومدهم بصنوف الغدر، والمكر لقهر شعوبهم وإذلالها.
من هذا المنطلق، فعودة “ميكافيلي”، هي عودة ما يحيل عليه زمن ميكافيلي من قهر، وتسلط، وتردٍ، وخيبة، وما تخيل السارد لشخصية ميكافيلي بالمقهى، ومحاورته وهو مصحوبا بكتابه “الأمير” إلا إشارة، وتأكيدا لتماهي واقع السارد في قساوته بما نظر له ميكافيلي في كتابه المذكور، بل إن  ميكافيلي نفسه رقت مشاعره لما عاينه من تردٍ في واقع السارد فقال: “أتحسر لما يقع لكم في هذا الزمان؟” (القصة ص: 34).
الزمن الذي كان قد وصفه السارد في قوله: “تهت بين ملامح المدينة وأنا أجر معي خيبة هذا الزمن الرديء” ( ص: 34).

الهم يصبح جزءا من نسيج الحياة الخاصة للشخصية، ويتغلغل في أدق تفاصيل حياتها، وهو يكشف عن مشترك الحياة الإنساني

وقد تجلت العلاقة بين الواقع والمجموعة القصصية في كثير من الحقائق والمشاهد والشواهد التي تقدمها لنا “القصة” وتحيل إلى ما يجري في واقع  المتقلي، وهي ترصد مأساة شخوص في زمن/واقع المحنة، والقسوة، الزمن الذي  كلما سمعوا حكايته “جحظت عيونهم وأخذت ملامحهم تميل إلى الشحوب” (ص: 57)،  وهذه بعض تجلياته:
فهو زمن/ واقع المحنة، والقسوة، وغياب العدالة، والحق الإنساني في الحياة الكريمة، واندحار الآمال، وخيبة التطلعات كما يوحي السارد إلى ذلك في قوله: “إن الحياة التي عشتها، مفعمة بالأمل كانت، وكثيرا من الحلم” (قصة “كبياض الثلج” ص: 26).
زمن أصبح فيه “اشعيبة”: “مجبرا على أن يسافر، أن يقطع الأرض طولا وعرضا بحثا عن عمل يقيه شر بطالة نخرت كيانه وقضت على ما تبقى من أحلامه” (قصة اشعيبة ص:51).
وهو زمن وواقع  الجهل، والخرافة، والشعوذة  كما تصور ذلك قصة “الولي”: “تقاطرت النسوة متشحات بالسواد، حملن أشياء تبركن بها عند قدمه، وضعت إحداهن سكرا وأخرى قطعا نقدية، تدحرجت فتاة بحثا عن زوج يقيها شر عنوسة نخرت شبابها..” (قصة الولي ص:61).
“كنت أول من دخل خلوة الشيخ ذات صباح، لم أجد أي شيء، لا سكر ولا قطع نقدية. جرت نسوة كعادتهن، سمعتهن يقلن بأن الولي الصالح أخذ كل شيء في ليل بهيم. انتشر الخبر في الدوار، بينما شككت في عابر السبيل الذي نام ليلة أمس. (القصة ص: 62).
وهو زمن سخرت فيه كل الإمكانات لرعاية أشكال التفاهة، والخواء، واللا معنى كما تؤكده المقاطع السرد ية التالية:
“تصفح الجريدة أمام طاولته، مسحها بنظرات عجلى، استقر نظره على ثمنها ثم تساءل في سره: هل تستحق هذه الأوراق كل هذا الثمن والجهد؟ وهذا الرماد الأسود على راحة يدي من سيتحمل عبء إزالته؟ (تيه ص: 21).
“رأى برنامجا يحدث عن اللاشيء، وعن جدوى التفكير، قناة أخرى تعرض منشطا فيه مواصفات اللامعنى، عرفت ذلك من رنة صوته الذي ينبعث من الميكرفون متحشرجا.. أطفأت الجهاز وانتهى الأمر..” (ص: 21)
“بعد ليلة طويلة قضيتها أصول وأجول ببن منصات مهرجان من مهرجانات وطننا الحبيب. كنت أتابع بحرقة مدى حاجتنا إلى الدندنة والغناء” (قصة عودة ميكافيلي ص:34).
فكان الحاصل تقزيم الإنسان، وتجريده من آدميته، عبر تحوير اهتماماته وتحويله إلى مجرد كائن تحذوه غرائزه، وينساق لكل مبتذل، تافه، يقول السارد في قصة “عودة ميكافيلي”:
“لم يفتني أن أحضر كل العروض في ليلة واحدة وفي توقيت واحد.  في كل مرة أجدني واقفا عند مؤخرة كل منصة، أنصت لنبض هؤلاء المساكين الذين تركوا جدران منازلهم تستمتع بهدوئها، بعضهم ركز نظره في تبان إحدى المغنيات، وكأن تبانا بذاك الشكل لم يعتد رؤيته في الجو العام”. (قصة عودة ميكافيلي ص:34)

– طسألت رجلا كان يعب نفسا عميقا من سيجارته:
–  شكون لاعب؟ واش الرجا..؟
قهقه قهقهة مدوية انتبه لها كل من كان حاضرا، ثم قال
بنبرة استهزاء:
–  الكلاسيكو آبنادم..  ( قصة الكلاسيكو ص:78)
لعل هذا الحوار وهو يشير إلى ما أصبحت تحتله الوقائع التافهة من اهتمام الإنسان، يلفت انتباهنا أيضا إلى إحدى النتائج الفادحة وهي: تبدل القيم، وتحولها، وما خروج نداء المحاور عن مقتضى الظاهر وهو ينادي محاوره القريب بأداة لنداء البعيد (آبنا دم) إلا للإشارة أن من لا يلم بهذا المبتذل يعتبر غافلا وجب تنبيهه، بل إن (خروج النداء عن مقتضى الظاهر)، لم يدل على معنى تنبيه الغافل فقط، بل  دل أيضا على معنى السخرية والتحقير.
وتعميقا من السارد لهذا الفهم (تبدل القيم)  أشار إلى أن هذه الأمور على ابتذالها وتفاهتها أصبحت مدعاة للفرح، والحزن، والغضب، والتوتر يتابع السارد: “تركت اللقاء الذي وصل دقائقه الحاسمة، وانشغلت بمتابعة اللقاء بين المتفرجين، عند كل محاولة يهتز نصف من كان في المقهى ويصمت النصف الآخر. كنت وحيدا لم أعرف ماذا أفعل، أأفرح لفرح هذا أم أغضب لغضب ذاك..؟ الرجل الذي أجلس بجانبه يسب ويلعن، غير مبال بمن حوله. دخنت معه عشر ات السجائر دون أن ألمس واحدة منها”.( قصة الكلاسيكوص: 79).
ويستمر السارد في تصوير هذا البؤس الاجتماعي ليصل ذروته وهو يصور الأوجاع المكبوتة، وقد تحولت إلى طاقة عنف تتحين لحظة انفجارها: “كنت أرى شررا ينقدح من أعينهم، ودوا حينها لو تحولت المقهى إلى ساحة للعراك، لو أفرغوا كل تلك الأوجاع التي أحسوها فيما يبنهم…” ( قصة الكلاسيكو ص80).
وهو أيضا واقع قمع وإخراس لصوت الحق، والمرجع: قصة “الكتاب” التي تحكي عن أستاذ أصبح  مدانا بإفساد عقول طلابه، لمجرد أنه جاب عن أسئلتهم عن الواجبات والحقوق:
“وجد نفسه  أمام رجلين بأكتاف عريضة وقسمات حادة.  وضعوا ملفات وأوراق على الطاولة.  قال أحدهم بعد أن مسح أرنبة أنفه:
–  أتعلم سبب اجتماعنا يا أستاذ..
أجابه إجابة الواثق من نفسه:
–  لا أعلم بالتحديد..  ما أعرفه أنكم تبحثون عن شيء ما..
قال الآخر في انتظام تام:
–  أنت متهم بإفساد عقول طلابك..  (الكتاب ص: 17)
وقد لخص السارد موقفه من كل أوجه هذا الواقع قي كلمة واجدة هي: “لا شيء يعجبني” (لا شيء يعجبني ص:9).
أمام واقع بهذه القسوة، والجبروت لم يعد هناك من سبيل لتغييره إلا بالتخيل، تخيل واقع بديل، وهو ما استجاب له السارد في قصة “كبياض الثلج”:
“تخيلتني أعيش في عالم جديد كل الجدة، كما لم أعشه من قبل، عالم أبيض كالثلج، وسط أناس جدد لا يخطئون، شعارهم الإحترام في المقاهي، والأمكنة العامة، والشوارع التي يملؤها البياض. ركبت صهوة خيالي الجامح وسط تفاصيله، قادني نحو أمكنة عديدة. مررنا بمقهى الحي، يبدو خاليا تماما إلا منا، لا سيجارة ولا أصوات مزعجة. جلسنا،  فأتانا النادل بالجريدة اليومية، كان اسمها بياض الثلج، لم تترك رمادها الأسود على راحة يدي، في صفحتها الأولى، ترى أخبارا سارة، لا حوادث سير، سقوط أمطار لا غلا ء أسعار. قادتنا خطواتنا نحو شارع البرلمان، تهنا وسط بياض أخاذ، أثار انتباهي هدوءه المعتاد، تساءلت في قرارة نفسي: كيف لهذا المكان الذي لا يهدأ من صخب وضوضاء المعطلن، أن يتحول إلى مكان وديع وردي كجنة من الجنان لم نصادف أفاقا  معدما، ولا ماسح أحذية، ولا مخبر شرطة.. … (كبياض الثلج 26_27).
أو باللجوء إلى الذاكرة، وفعل التذكر، تذكر زمن ولى: “تذكرت زمنا أصبح في خبر كان، زمنا كان فيه الصغير ينصت للكبير” (قصة زمن الحكاية ص:56 ).
تركيب:.
هكذا إذن، عمد القاص إلى صياغة رؤية انتقادية للسائد. وقد نجحت مجموعته في رسم سمات الإعاقة، وعوامل الانكسار والنكوص لصورة واقع يبدو من المستحيل إعادة تأهيله. وإن يكن الهم السياسي أبرز همومها، فالجديد لديها، هو أنه ليس الهم السياسي العام الذي يحيل الموضوع إلى مجرد ترف فكري لعموميته وتجريديته، وإنما ذاك الهم الذي يصبح جزءا من نسيج الحياة الخاصة للشخصية، ويتغلغل في أدق تفاصيل حياتها، وهو يكشف عن مشترك الحياة الإنساني.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام الموقع ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، ولتحليل حركة الزيارات لدينا.. المزيد
موافق