بقلم - محمد جميح
دعونا نتساءل: أيهما أكثر ضرراً على العرب؟ عداوة روسيا، أم صداقة أمريكا؟
ودعونا نقول مباشرة: عداوة روسيا في سوريا دمرت مدناً تاريخية، ولدت مع بزوغ شمس التاريخ، ولكن صداقة أمريكا في الخليج دمرت فرصة الاعتماد على النفس، وقامت على فكرة «ابتزاز الأصدقاء»، علاوة على ضلوعها في تدمير النسيج الداخلي.
عداوة روسيا لبعض العرب مكنت لإيران في سوريا، وصداقة أمريكا لبعضهم الآخر هي التي اقتضت وجود إيران قوية ومشاكسة حتى يظل «الصديق العربي» بحاجة لـ»فزعة» «صديقه الأمريكي» ضد إيران، ومن هنا تأتي صفقات السلاح والاستثمارات الخليجية الضخمة التي تصب في عَصّب الاقتصاد الأمريكي.
وفي حين قد ينفع مع الروس «الصديق الحميم»، نظراً لأن «عقل الروسي في صدره»، فإن الأمريكان ربما نفع معهم «العدو العاقل»، نظراً لأن «قلب الأمريكي في جمجمته»، ولكن العرب- لسوء حظهم- لم يكونوا «أصدقاء حميمين» ولا «أعداء عاقلين». السبب في ذلك هو ضعف العرب الناتج عن أسباب كثيرة لعل أبرزها يكمن في عاملين: الأول «الخلافات العربية-العربية»، والثاني «اختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم».
أما «الخلافات» فالعرب بارعون فيها، ففي الدول التي فيها خليط من الطوائف ينفجرالصراع الطائفي، وفي الدول المتجانسة طائفياً ينفجر الصراع الجهوي، وفي دول أخرى صراع قبلي، وفي غيرها صراعات سياسية تقود إلى السلاح، وكان من نتائج تلك الصراعات أمر مهم، تجلى في اضمحلال الطبقة الوسطى التي تلاشت بفعل الصراع، وبسبب الهجرة والتصحر المعرفي والتغير الديمغرافي الذي أحدثته هجرة الأرياف إلى المدن، الأمر الذي أدى إلى نشوء حالة اقتصادية واجتماعية على حواف العواصم التي نشأ فيها جيل يحس بالثورة والغضب، لم تتقبله المدينة، ولم تعد القرية تصلح له، فانفجر في المدينة أواخر 2010 ومطلع 2011، فيما بات يعرف باسم «الربيع العربي».
وبعد الربيع وقبله كان الروس والأمريكان والإسرائيليون وغيرهم في المنطقة، التي ضربتها ثورات شعبية أنتجت عدداً من الصور التراجيدية في بعض مآلاتها، صور نفذ فيها الخارج إلى عمق النسيج الداخلي العربي، وأصبح الأجنبي يقود عمليات مصالحة باعثة على السخرية بين «الأشقاء»، فيما تدعو إسرائيل- في مشهد موجع-إلى ضرورة «وقف الصراع»، ولا يكتمل العرض من دون رؤية قوافل إغاثة إسرائيلية لنازحين من الحرب السورية، ودون قراءة تغريدات «موغلة في رمزيتها الجارحة» يوردها بين الحين والآخر أفيخاي أدرعي، الذي مكنه تسييس بعض الأنظمة للقضية الفلسطينية، من صياغة تغريدات لاذعة، تضاف إلى عبثية المشهد العربي المعاصر.
ومع أهمية «الخلافات العربية – العربية» كعامل ضعف بنيوي لدى العرب اليوم، فإن هذا العامل مرتبط بعامل آخر ربما كان «عقدة المنشار» التي تكمن في طبيعة العلاقة بين «الحاكم والمحكوم»، هذه العلاقة المهتزة هي التي فتحت أبواب الشرور، وأوسعها باب التدخل الأجنبي، الذي لن يتوقف إلا بعد أن يصار إلى ضرب من العلاقة المتوازنة بين الطرفين، وهذا التوازن لا بد أن يبنى على الرضى النسبي للشعوب عن الأنظمة، وهذا الرضى النسبي لا يتحقق إلا بشرطين: الأول أن يكون الشعب هو من يختار حاكمه المباشر، والثاني: أن تكون لدى المؤسسات الشعبية المنتخبة القدرة على مساءلة النظام بشفافية، وهذا هو الإجراء الذي يمنع حدوث ثورات شعبية في البلدان المتقدمة.
ينبغي- إذن- أن يتحول العرب من الفكرة الدينية، المتمثّلة في «الاختيار الإلهي للحاكم» والتي لا تزال سائدة بشكل أو بآخر، إلى الفكرة السياسية المتمثّلة في «الانتخاب الشعبي للنظام»، وهذا يعني أن للشعب الحق ليس في انتخاب الحاكم وحسب، ولكن في انتخاب من يراقب أداء الحاكم وكبار مسؤوليه.
هذا هو الحل لإشكالية العلاقة المأزومة بين الطرفين، وهو الحل الذي يجعل «الصراع المسلح العنيف» على السلطة في ميادين القتال يتحول إلى «صراع سياسي سلمي» في ميادين الانتخابات. وهو الذي سيقضي على الجيوش الطائفية في المنطقة، لأن تلك الجيوش لا تتكاثر إلا مع انسداد الطرق الطبيعية للوصول إلى السلطة، حيث تحاول أن توظف «خطابها الديني» بدلاً من «برامجها السياسية» كوسيلة لخداع الجماهير بالعزف على الوتر الديني للوصول إلى السلطة. وبذلك يتلاشى المعيار الديني لمصطلحات الأقلية والأغلبية، وستكون لدينا أقلية وأغلبية، لكن على أساس سياسي، وعندها يخفت الخطاب الطائفي، ويبقى محصوراً بين مجموعة من المهتمين الدينيين والأكاديميين.
وعندها تخفت الجماعات الطائفية التي يحاربنا بها خصومنا، فيما تدعي هي أنها تقاتلهم بقتالها لنا، حيث إن أذكى ما ابتكره أعداء العرب في مرحلة ما بعد الاستعمار أن أنتجوا لهم جماعات وأنظمة تقتل العرب باسم قتال أعداء العرب، وتلوي أعناق الحقائق والنصوص والتواريخ، ولذا يقتلنا «التشيع الجهادي» عند الحوثيين وحزب الله والحشد الشيعي تحت شعار «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، كما يقتلنا «التسنن الجهادي» عند تنظيم «الدولة» والقاعدة ومشتقاتها تحت شعار «قتال التحالف اليهودي والصليبي»، كما تقتل أنظمة بعينها شعوبها، لأن تلك الشعوب في نظرها «مجموعة من عملاء الخارج».
أخيراً: لكي تبني الأنظمة علاقات متوازنة مع الروس والأمريكيين وغيرهم، فلابد لتلك الأنظمة من بناء علاقات طبيعية سوية بينها وبين الشعوب، وعندما يتم تطبيع العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المنطقة، يمكن أن ينتج العرب «الصديق الحميم» والعدو العاقل» اللذين يمكن أن يجدا أصدقاء حميمين وأعداء عاقلين في العالم، يتعاملان معهم على أساس من الندية والمصالح المشتركة، حيث لا تكمن المشكلة في «العدو» الروسي، ولا في «الصديق» الأمريكي، ولكنها تكمن في ذلك العربي الذي لم يستطع أن يكون «صديقاً حميماً» أو «عدواً عاقلا».