بقلم - محمد جميح
بعدد قيام ثورة سبتمبر ضد نظام حكم الأئمة في اليمن، اهتم الثوار بملاحقة آل حميد الدين، على اعتبار أنهم من بقايا النظام الديني، الذي كان امتداداً لحكم الأئمة الزيديين الذي استمر لقرون طويلة شمال البلاد، من دون التركيز على الأفكار المؤسسة التي أنتجت تلك الإمامة السياسية.
تمت ملاحقة رموز النظام الإمامي، الذي كان يقوم على أساس أن «إمام اليمن» يجب أن يكون من ذرية «البطنين» الحسن والحسين، حسب مقولات الفقه السياسي الزيدي، التي عمّدت «المشروعية السياسية» لحكم الأئمة خلال قرون من الزمن شمال البلاد. نسي الثوار وهم يلاحقون رجال النظام الإمامي، أن التركيز على ملاحقة الأشخاص فقط، لا يعني أكثر من اختزال المرض في العرض، أو الانتباه للبيض مع إهمال الحاضنة، وأن التركيز على آل حميد الدين لا يغني، من دون معالجة «الفقاسة الفكرية» التي أنتجت وما زالت تنتج أوهام «الحق الإلهي» للسلالة الهاشمية في حكم البلاد، وهو الذي أسس له مؤسس الدولة الزيدية في اليمن، الإمام الأول الهادي يحيى بن الحسين في صعدة في القرن الثالث الهجري. وتتمثل هذه الحاضنة الدينية أو الفقاسة الفكرية لأفكار «الحق الإلهي» في منظومة «الهاشمية السياسية»، التي لا يعد آل حميد الدين وغيرهم من المؤمنين بالحق الإلهي في اليمن إلا تجلياً لمقولاتها الفقهية وتوجهاتها السياسية والفكرية، التي تقوم على فكرة «حصر الإمامة في البطنين»، كما وضعها الإمام المؤسس الهادي يحيى بن الحسين، الذي قدم إلى صعده من بلاد فارس، ليكون حَكَماً في قضايا قبلية بين قبيلتي: همدان بن زيد وخولان بن عامر، ثم لما أصلح بينهما، تحول من حَكَم إلى حاكم، ثم لما تحول إلى حاكم برتبة «إمام»، أسس لفكرة «حصر الإمامة في البطنين (ذرية الحسن والحسين)»، لكي يضمن أن يكون الحُكْم فيه وفي ذريته من بعده، على اعتبار أنه ينتسب لهذين البطنين. سادت هذه الفكرة في اليمن قروناً طويلة، واستند إليها كل أئمة اليمن في دعم شرعيتهم السياسية، حتى وهم يقاتلون بعضهم بعضا، حيث كان الأخ يقتل أخاه، على الملك بحجة «الأحقية الدينية» التي استندوا إليها، بطريقة جعلت كل معارضيهم يخضعون لهم بحكم أنهم – حصرياً- الذين يحق لهم حكم اليمن على أسس سلالية، تماماً كما يقول الحوثيون اليوم، الذين يرددون الشعار الحوثي المعروف: «ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﺎ ﻧﺘﻮﻻﻙ ﻭﻧﺘﻮﻟﻰ ﺭﺳﻮﻟﻚ ﻭﻧﺘﻮﻟﻰ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﻋﻠﻲ، ﻭﻧﺘﻮﻟﻰ ﻣﻦ ﺃﻣﺮﺗﻨﺎ ﺑﺘﻮﻟﻴﻪ ﺳﻴﺪﻱ ﻭﻣﻮﻻﻱ ﻋﺒﺪﺍﻟﻤﻠﻚ ﺑﺪﺭ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﺤﻮﺛﻲ. ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﺎ ﻧﺒﺮﺃ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻋﺪﻭﻙ ﻭﻋﺪﻭ ﺭﺳﻮﻟﻚ ﻭﻋﺪﻭ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﻋﻠﻲ ﻭﻋﺪﻭ ﻣﻦ ﺃﻣﺮﺗﻨﺎ ﺑﺘﻮﻟﻴﻪ ﺳﻴﺪﻱ ﻭﻣﻮﻻﻱ ﻋﺒﺪﺍﻟﻤﻠﻚ ﺑﺪﺭ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﺤﻮﺛﻲ»، وهو الشعار الذي يحيل إلى «حصر السلطة في عبدالملك الحوثي»، المستند إلى المرجعية السياسية والدينية، التي استند إليها الإمام الهادي في «حصر الإمامة في البطنين». نعود لنقول إنه عندما اختصرت المشكلة بعد ثورة 1962 في اليمن في آل حميد الدين وحسب، من دون الذهاب بعيداً في تتبع الفكر الإمامي في خلفيته العنصرية التي تحصر الحكم في سلالة بعينها على أسس عرقية، غير ديمقراطية ، عندما تم ذلك، عادت المشكلة مرة أخرى، وإن بشكل وآليات مختلفة وأسرة أخرى. المشكلة ليست في آل حميد الدين أو غيرهم من بيوت الأئمة في اليمن، المشكلة في الفقاسة الفكرية، أو الحاضنة السياسية المتمثلة في الهاشمية السياسية، التي عملت على تفريخ الأفكار المغلوطة التي سادت في اليمن لمئات السنين. وعندما لم يقم «الثوار الجمهوريون» بعمليات مستمرة لتطهير الحاضنة الفكرية التي تنتج الأفكار السلالية، عادت الهاشمية السياسية مرة أخرى لتنتج أسرة أخرى تزعم أنها الأولى بالحكم، وتنتج شعارات دينية وسياسية، مؤسسة على نظريات الهاشمية السياسية في الحق الإلهي، وظهرت أسرة الحوثي التي تدعو إلى تولي «سيدي ومولاي عبدالملك بدر الدين الحوثي»، حسب شعار جماعة الحوثيين. والحقيقة أنه ما لم تتم معالجة الأفكار المؤسسة للحق الإلهي الضاربة بجذورها في الهاشمية السياسية في اليمن، فسيظل اليمنيون يعانون من وجود أشخاص وأسر تظهر بين الفينة والفينة، تدعي أنها الأولى بالسلطة والثروة، تكون فيها الإمامة الدينية والسياسية، وتُجبى اليها أموال اليمنيين على أسس دينية سلالية. وفي هذا المقام يمكن القول إن التركيز على الحوثيين فقط، مع إغفال دور الهاشمية السياسية، يمكن أن يجعل مقاومي الحوثي اليوم يقعون في ما وقع فيه ثوار سبتمبر عندما اكتفوا بملاحقة بيت حميد الدين، وتركوا مواجهة الأفكار العنصرية لدى «الهاشمية السياسية»، التي تغير لبوسها حسب متغيرات الزمان والمكان، لكنها في جوهرها تظل محتفظة بمحتواها الديني والسياسي. إن حصر التركيز على الحوثي الشخص يجعل اليمنيين ينسون الحوثية الفكرة، والتركيز على الظاهرة الحوثية ربما جعلهم ينسون الهاشمية السياسية التي تعد بمثابة فقاسة الأفكار والجماعات السلالية العنصرية في اليمن، على مدى قرابة ألف عام. لا يمكن معالجة المرض بالتوقف عند أعراضه، ولا يمكن هزيمة الحوثية ما لم نذهب بعيدا في استكناه أفكارها القائمة على الحق الإلهي لدى الهاشمية السياسية، التي تعد مرض الأمراض لكل الحركات والدول والجماعات التي قامت على أساس دعوى الحق الإلهي في شكله العنصري والسلالي. إن المعركة اليوم في اليمن ليست مجرد معركة شرعية ضد انقلاب، ولا جيش وطني مقابل مليشيات حوثية، إنها أعمق من ذلك، وينبغي أن تسير في مسارات متعددة فكرية – دينية، ومدنية – ثقافية، وتربوية – تعليمية. وعندما نعرف أن الأسر الإمامية في محافظة صعدة كانت تمنع التعليم النظامي في القرى والمديريات التي تتواجد فيها، وعندما نعرف أن مسقط رأس الحوثي لا توجد فيه مدرسة ثانوية، ندرك أن الحكومات اليمنية المتعاقبة قصرت في حق أبناء مناطق شمال الشمال في اليمن، الأمر الذي أبقى الكثير منهم عرضة لما يلقنه لهم تيار الهاشمية السياسية عن خرافات الحق الإلهي، والعرق المقدس، إلى أن وصل الأمر بهم إلى تقديس عبدالملك الحوثي الذي ليس لديه أي مؤهل علمي، والذي لم يكن أكثر من سائق سيارة أبيه بدر الدين وأخيه حسين الحوثي، قبل أن تحوله الهاشمية السياسية إلى «ولي»، أمر الله بطاعته، و»قائد» يتزعم ثورة إسلامية تريد إرجاع اليمنيين إلى «الإسلام الصحيح»، بعد أن ضلوا ضلالاً مبيناً.