بقلم - مروان الغفوري
يعتقد شعبويو الحراك الجنوبي أن حزب الإصلاح يشكل عائقاً كبيراً أمام طموحاتهم الانعزالية/ الانفصالية، وأمام سعي القادة الشعبويين لاختطاف الفضاء العام وتحويله إلى أنشودة واحدة تمجد خطاباً بعينه، لا تحيد عنه. أشعلوا النار في حزب الإصلاح لأنه “تلكأ” عن أداء الأنشودة بالطريقة التي يريدها الميليشويون الكبار.
وهم يهاجمون الإصلاح يعتقد الشعبويون الانعزاليون أنهم يهاجمون الوحدة اليمنية، كما يفهمونها. يتعرض الحزب، أيضاً، لعملية تجريف في الشمال لاعتقاد سائد لدى الحوثيين هُناك أنه، بوزنه الكبير وخبرته في السياسة والتنظيم، يشكل عائقاً أمام التطلعات الإمامية. وأنه، من خلال دعوته المستمرة، وقتاله المستمر، لإعادة الحياة السياسة فهو يدعو إلى تجريدهم من ملامحهم الميليشوية، أي من قوتهم الغاشمة غير المنضبطة. هو، بالصورة تلك، عدو واضح.
ولكي يكون واضحاً أيضاً، فحزب الإصلاح ليس ناضجاً بعد كحزب، ولا يزال يعج بظواهر أوهام وعنف دفين. لكنه الآن غيره قبل ثلاثين عاماً، ومن الأفضل مساعدته لكي يصبح حزباً أفضل لا حزباً أسوأ.
من المثير أن أكثر الحركات فاشوية في اليمن، شمالاً وجنوباً، تهاجم حزباً سياسياً. إذا اختفى الحوثيون كميليشيا، أو الحراك الجنوبي كحركة فاشوية، فإن الأحزاب والتنظيمات المدنية ستملأ الفراغ. لكن ذلك لن يحدث فيما لو اختفى حزب الإصلاح. ليس لأنه البديل المدني للمتدينين الرافضين والقلقين، أولئك الذين كان ممكناً أن يتجهوا إلى أقصى اليمين وأبعد من ذلك، القاعدة مثلاً، وحسب .. بل لأنه الأكبر حجماً في الحياة السياسية، ومن خلال وزنه وقدرته على مد الجسور مع الأحزاب والمنظمات، وخبرته في السلطة والمعارضة، لا يزال قادراً على إثرا الحياة السياسية، وإحيائها من جديد. أكثر ما يحتاجه اليمن حالياً، وعلى نحو حاد، هو مزيد من السياسة، مزيد من الحياة السياسية، والقليل من الفوضى، القليل من الكتل الجماهيرية السائبة والتي بلا ملامح.
يدفع الإصلاح ثمناً باهضاَ لكونه حزباً سياسياً كبيراً في بلد يضيق بالسياسة، ويعتبرها فاعليون محليون مؤثرون خطراً على حضورهم وطموحاتهم. استهداف حزب الإصلاح هو استهداف للحياة السياسة، ومحاولة لتفريغها بحيث تصبح هشة وقابلة للتبديد والاختراق. أي: لملأ الحياة السياسية بالشعبويات، والتوافقات الاجتماعي، والسلطنات الهشة.
فلا معنى لسعي قائد ميليشيا للهيمنة على مدينة ما لم يفرغها من الحضور السياسي الفاعل والمنظم. فالقائد الضرورة ينشأ كبديل للسياسة وتعويض عنها. حتى يتمكن القائد الضرورة من تحديد المصير النهائي لمدينة بعينها، بالمعنى السياسي والإداري، عليه أن يكون وحيداً وقوياً وفرداً، ولا يمكن التشكيك بواحديته ورمزيته. السياسة لا تسمح بمثل هذه المظاهر البدائية، مظاهر ما قبل الدولة. لذلك يدفع حزب الإصلاح ثمناً باهضاً.
لو أن الإصلاح رفض الدخول في السياسة، قبل ثلاثين عاماً، واستمر في أوهامه السابقة وضلالته القديمة والحياة في الدهاليز لأفسح له المجال في عدن وصنعاء، ولزودته الإمارات بالمدرعات. فالميليشيات لا تمانع من تشكيل تحالفات خارج الدولة، وستسعى من خلالها لإعادة توزيع الهيمنة بالعدل والقسطاس. لاحظ أن السلفيين في الجنوب، وهم الحديقة الخلفية لتنظيم القاعدة، يحصدون رضا متزايداً، ويجدون مقاعدهم فارغة لدى القيادات والحشود الشعبوية. أهلية السلفيين هنا ليست في المنطق الشعبوي، بل في رفضهم للسياسة، واختيارهم الحياة خارجها. خارج السياسة تعيش العصابات والإرهاب والأوهام وكل العمليات السوداء. لا يستطيع حزب الإصلاح، بعد كل منجزه السياسي، اختيار ذلك الطريق، فلم يعد يناسبه الآن. لذلك تأتي بياناته البراغماتية من عدن، وهي تؤيد تلك الحركة أو تلك، باهتة وبلا معنى.
في البلد المفكك، الموبوء بالحروب والعصابات، تمثّل الأحزاب أو آخر ما تبقى منها جرس إنذار، وقُبلة الحياة الأخيرة. وكم هو مخيف وموحش أن تهاجم العصاباتُ الأحزاب، وأن تسعى الحشود الشعوبية التي بلا ملامح لسحق آخر معنى متماسك للسياسة كما نعرفها. بالنتيجة، مع تلاشي الأحزاب كلياً وانحلالها، أو سحقها، ستملأ العصابات الفراغ، وسيمضي وقت طويل حتى يتمكن المجتمع من احتواء المشهد الميليشوي وإنتاج أحزاب من جديد!
أيضاً تريد دولة الإمارات أن تنشئ سلطة انتداب في الجنوب، وقد حصلت على أرض واسعة وبحار ممتدة، وصارت تخشى من فقدان هذه المستعمرة الكبيرة، ويقلقها وجود قوى وطنية ذات منزع استقلالي، أو ديموقراطي. يمثل الإصلاح، عند هذا التقدير، واحداً من عوامل الخطر في التقدير الإماراتي. فعبر اختياره طريق السياسة سينادي الإصلاح باستقلال القرار الوطني وإعادته إلى البرلمان والفعاليات الديموقراطية. داخل الفكرة الديموقراطية للدولة تحضر مسألة السيادة على نحو حاد، ولا يمكن التلاعب بها أو إخضاعها لتسويات سرية. ذلك خطر كبير على أي سلطة انتداب. الحل، في التقدير الإماراتي، شيطنة حزب الإصلاح ودفعه خارج السياسة حتى يسهل عزله كلياً، وإخماده .. أو حتى يكون ممكناً إجراء مساومات كبيرة معه، لا تضر بمصالح سلطة الانتداب الإماراتي في الجنوب..
يمكنك قول أشياء كثيرة عن حزب الإصلاح، من ممارسته للسياسة حتى النموذج الثقافي والأخلاقي الذي يقدمه، ويمكنك أن تقول أنه يحفلُ بحزمة كبيرة من القيم التي لا يمكن أن تكون مشتركة ..
لكنه، بالصورة أعلاه، يخوض معركة دفاعاً عن قيمنا المشتركة.
أو لنقل:
يتعرض للاقتلاع بسبب قيمه الديموقراطية، لا بسبب قيمه غير الديموقراطية.
لنتذكر أن الخطاب الشعبوي في الجنوب، كما في الشمال، لم يذكر الديموقراطية والحياة السياسية المتنوعة ولا مرة واحدة.
فالحياة الديموقراطية تحتوي بداخلها كل أنواع السموم القاتلة للميليشيات والشعبويات البدائية، ولا تسمح باختطاف الجماهير بالطريقة التي نراها..
ولكي يكون واضحاً أيضاً، فحزب الإصلاح ليس ناضجاً بعد كحزب، ولا يزال يعج بظواهر أوهام وعنف دفين. لكنه الآن غيره قبل ثلاثين عاماً، ومن الأفضل مساعدته لكي يصبح حزباً أفضل لا حزباً أسوأ..