هناك حملة تضامن واسعة مع محافظ محافظة الضالع فضل الجعدي.
أُصيب الرجل بخيبة أمل، وشعر بالخذلان فقرر الإعتكاف بسبب تجاهل السلطة الشرعية لمطالبه.
في المقابل هناك ما يشبه الحملة المستمرة ضد محافظ تعز علي المعمري رغم أن تعز كالضالع تشتكيان بمستويات متفاوتة لمصلحة الأولى من ذات السبب: عدم قيام السلطة الشرعية بواجباتها حيال المحافظتين !
اللافت أن كثير ناشطين ومتضامنين مع الجعدي هم من تعز، وبعضهم لا شغل لديه سوى تحويل المعمري الى هدف للقنص اليومي !
الجعدي سياسي إشتراكي عتيد، ومناضل صلب، قبل التحدي في ظرف صعب في ظل حرب، وتحمل المسولية بشجاعة، ووصل به الأمر الى حد الإعتكاف، بسبب خذلان السلطة الشرعية.
يستحق الرجل التضامن حقاً، فقد وصل على ما يبدو الى حالة إنهاك فقرر أخيراً الجهر بعجزه، واضعاً المسؤولية على عاتق الرئيس وحكومته.
كانت الضالع أول محافظة تطرد المليشيا الى غير رجعة بصورة شبه تامة، ورغم ذلك ظلت تواجه إشكالات كثيرة على المستوى الأمني وسيطرة الجيوب المسلحة على عملية الجباية، رغم أنه جرى لملمة المقاتلين سريعاً واستيعابهم في معسكرات، وضمهم الى صفوف الجيش.
حتى اللحظة لازال المحافظ يشكو من غياب أي دعم من السلطة الشرعية أو التحالف للجانب الأمني، ما أضطره للتعامل مع ” ماهو قائم من تشكيلات أمنية، واقتصاد سوق سوداء “.
مؤخراً تعرض الجعدي لمحاولة إغتيال، وكانت تلك واقعة تشير الى مشكلة أمنية بدأت تطال كبار مسؤولي السلطة المحلية هناك ، رغم أن وقائع اغتيال تمت في الضالع لمقاومين وضباط طيلة الفترة الماضية، ربما بصورة أقل من تعز.
إجمالاً واظب المحافظ الجعدي على تأدية وظيفته معظم الوقت في مقر عمله ومازالت ملفات كثيرة متعثرة فقرر الإحتجاج بتلك الطريقة.
خلافاً للضالع، مازالت تعز رهن عذاب طويل منذ أكثر من عامين، حيث تكتب ملحمة الكفاح الثوري للخلاص من الحلف الطائفي المجرم، ومازال جزء كبير من المحافظة يقع تحت سيطرته.
تواجه تعز أيضاً وضعاً صعباً ومعقداً لاعتبارات كثيرة داخلية وخارجية، وهي مستهدفة في الأصل كمحافظة يجب أن تدفع ثمن ” ثوريتها” من جانب، ومبارزتها التاريخية للمركز المدنس من جانب آخر!
مع ذلك ففي بعض الجوانب، أستطاعت تعز إنتزاع إستحقاقات مهمة من السلطة الشرعية، حدث ذلك بينما المحافظ المعمري، شبه مستقر في عدن!
في النتيجة:المناضل الجعدي، لزم مكانه في مكتبه معظم الوقت وأنتهى للإعتكاف، بينما المحافظ المعمري مازال في عدن وهناك نتائج كثيرة جيدة تتحقق لتعز ذات أثر قريب وبعضها أثرها بعيد لأسباب كثيرة موضوعية وذاتية لها علاقة بتعز نفسها.
لكن لماذا تتناقض المواقف حيال الرجلين، فالأول يعتكف ويحصل على حملة تضامنية، والآخر، يواجه حملة شعواء تستهدفه شخصياً رغم نشاطه الصامت؟
من الواضح أننا أمام نموذجين، يفصحان عن مشكلة واحدة تواجه الضالع وتعز كما بقية المحافظات:عدم جاهزية السلطة الشرعية وحكومتها للقيام بواجباتها وغياب أي رؤية تتعلق بالدور الإستثنائي الذي يجب أن تلعبه أثناء الحرب وبعدها.
لطالما كان غياب المعمري عن المحافظة هو المبرر لحملات القنص اليومية للرجل.
شكلياً تبدو المبررات منطقية للغاية، وتستند على حجج راسخة. فالمحافظ يجب أن يكون لصيقاً بمحافظته يباشر إدارة شانها اليوم من اوساط الناس ومتاعبهم.
لكن في المقابل، ماهي السلطات التي يمتلكها المعمري لممارسة وظيفته وهل يستطيع محافظ مدني جاء من خارج الفصائل والولاءات المبعثرة أن يمارس دور المسؤول الأول حقاً في المحافظة؟
لقد كانت تعز شبه مدمرة على كل المستويات: هناك دمار في البنية التحتية، و دمارأكبر في حياة الناس ومصادر الدخل، ودمار شامل، لحق بالأجهزة المناط بها ممارسة السلطة !
إن وظيفة محافظ في مدينة تواجه حرباً متعددة الأوجه حيث القتل والدمار اليومي والحصار، والإفتقاد لأبسط الخدمات مع غياب تام للأجهزة الأمنية، أشبه بمن ينام محاطاً بحزام ناسف.
كيف تستطيع أن تكون مسؤولاً في أي موقع وأنت لا تملك أدوات ممارسة السلطة؟
جاء هادي الى الرئاسة ومعه أصوات حوالي 8 ملايين يمني خرجوا لمنحه ثقتهم بشكل توافقي ليكون رئيساَ لليمن.
كانت الطريقة مقبولة، كنتيجة لاختطاف مسار الثورة، لكنها كانت لُعبة في النتيجة، فقد جاءت برئيس لا يمتلك أيّ من أدوات ممارسة السلطة، وكانت جميعها بيد صالح، المشكلة التي انتفض ضدها اليمنيين، وخلعوها من الكرسي.
كل محاولات تفكيك الشبكة أخفقت، فانتهت الألوية المفترضة كجزء من جيش بلاد الى كتائب مليشياوية ، تطلق النار صوب الرئيس الشرعي، المكلفة بحمايته، وتردد شعاراً طائفياً!
كانت الحرب، تعبيراً عن هزيمة تاريخية لليمنيين، وانكشافهم أمام العالم، بلا دولة.
كما عدن وبقية المحافظات الجنوبية، كان على تعز أن تعيش وضعاً مكشوفاً هي الأخرى فكل
على رأس هذه الأجهزة:الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة .
كان علي تعز أن تقاتل مليشيا طائفية بربرية، بصورة عفوية في تشكيلات المقاومة المختلفة، وفي نفس الوقت دفع الثمن.
ثمن تحول جميع المسميات الأمنية والعسكرية الموجودة في المحافظة الى عدو يقاتل ضد المحافظة وأبناءها، كتعبير عن حقيقة موجعة :لا شيئ من كل تلك المسميات كان يخص اليمنيين، وجميعها تصرفت كتشكيلات غازية أسفرت عن وجهها الطائفي !
مع الحرب، تشكلت صورة بديلة مرتجلة لمجموعة سلطات متناثرة، وفصائلية.كان ذلك يعكس افتقاد النخبة السياسية المحلية والقادة ، للحس بالمسؤولية الإجتماعية. في جزئها الآخر كانت تعكس غياب كلي لدور السلطة الشرعية المركزية عن ملفات عديدة، متعلقة بإعادة بناء أجهزة الدولة وإعتمادها على الإرتجال، وانتظار ما سيقدمه التحالف.
ظلت سلطة مجردة ، بلا هياكل إدارية وبيروقراطية واضحة تقوم بإدارة الشأن اليومي للناس والإشراف على المحافظات المحررة. لم تكن موجودة لا كمهام ولا مقرات، ومعظم الوقت كانت هذه السلطة نازحة.
في النهاية هناك ثمن للدمار، كما هو ثمن إعادة البناء الذي سيعكس كل العوامل المذكورة ، لتنتج تماماً هذه الاوضاع التي تشهدها تعز وبقية المحافظات.
إن أي مسؤول في هكذا وضع هو شخص ثانوي جداً من حيث الأثر على الواقع، فقط، لديه قرار جمهوري، ويمكن أن يحصل على راتب جيد ومرافقين وفقرة جديدة في سيرته الذاتية، لكن قائد فصيل أو مجموعة مسلحة يستطيع تحويله في لمحة، الى قضية للتضامن !
كشفت أكثر من حادثة مسلحة بعضها واجهها المحافظ نفسه، كيف أن الرجل الأول المفترض، المعني بتأمين المجتمع وإدارة الشان العام للمحافظة، غير قادر على تأمين نفسه !
هناك أفراد أمن وإدراة سيظل تأثيرها محدوداً حتى بوجود شخصية قيادية وحازمة غير القائم الآن، إن لم يتم ضبط حمل السلاح في المدينة، ليس في أوساط المواطنين، بل من قبل المقاومة وأفراد الجيش أنفسهم !
في نفس الوقت، كان هناك مقاومة غير منضبطة، بولاءات متعددة، تحتاج الى دمج في ألوية عسكرية، وهذه الألوية ظلت بدورها مسميات تعتمد على قدرة القادة وارتباطاتهم على تدبير احتياجاتها من العتاد والغذاء والدعم المالي.
إجمالاً ليس هناك ما يصل كل هذه الحلقات ببعضها: تراتبية هيكلية نظامية لمؤسسة جيش وأمن، تنتهي بالحلقة الأهم : مرتبات شهرية منتظمة، وتوجيه معنوي نشط لتعزيز الولاء الوطني.
وسط هكذا وضع معقد، مطلوب منك أن تقوم بواجباتك في إرساء الإستقرار واعادة الحياة الى طبيعتها وتأمين المجتمع، وفي نفس الوقت، العمل على إعادة بناء كل ذلك، جنباً الى جنب !
لا يتعلق الأمر فقط، بصعوبة وضع تعز شبه المدمرة، وتحدياتها الأمنية والعسكرية الأكثر إلحاحاً بل إن تحدياً آخر يكاد يخص تعز فقط ، مرتبط بطبيعة المحافظة التي ظلت مهد السياسة، والنشاط الحزبي.
فالمفترض أن حالة التسييس المرتفعة في المجتمع التعزي، تسهم بصورة معكوسة في تسهيل إعادة بناء أسس الدولة، كمطلب ملح قبل أي تنافس سياسي، لكنه أنتج بيئة مريضة بالتعصب ناتجه عن تشوه الممارسة السياسة، تجعل المهمة أشبه بمواجهة حرب موازية.
حين يتوجب عليك الإنهماك في مساعدة الجبهات على تصويب سلاحهم الى العدو، سيتعين عليك الإستعداد للتكيف مع مخلفات جيل من الثارات السياسية والأيدلوجية بين الأحزاب ومنح اهتمامك لمعارك أخرى ومنافسات، ومواجهة الكثير من نيرانها الصديقة !
مزيجاً من كل ذلك رافق تعيين المعمري منذ اللحظة الأولى.
بعد نقاش مستفيض بين أحزاب المشترك، كان المعمري محل ترحيب الجميع، ووجدت فيه كل الأطراف الشخص المُرضي لمزاجها.
فهم يعرفونه جيداً أولاً، فضلاً عن سبب يشجع الجميع على قبوله بلا تردد: عدم إنتمائه لأي من الأطراف المتنافسة في تعز!
عند تعيينه محافظاً بدت مهمته، كما هي بالنسبة لأي شخص آخر، أشبه بمن يحاول إخماد حريق وهو في وسطه !
شاهدنا بعضاً من ملامح معارك تعز الجانبية بين الأحزاب، قبل التعيين وتداول الشائعات بشأن المرشحين، وظهرت آثارها على وسائط التواصل حيث أخذ كل فريق يقذف الآخر، بالطموح للسيطرة، والغاء الآخرين.
كانت معارك جانبية بشرت بالكثير مما يحدث الآن بصورة أكثر سفوراً، وأماطت اللثام عن حس غير مسؤول ولا وطني لدى الجميع، تتفوق فيه غريزة الغنيمة، على أي اعتبار آخر.
هذا وحده تحدي جسيم ومنهك أكثر من أي شيئ آخر !
في مقابلة مع قناة بلقيس تحدث المعمري أنه خرج من تعز، عبر طريق جبلية وعرة عندما كانت محاصرة من جميع الإتجاهات، وقاد جهوداً لجلب دعم من التحالف تمكنت من خلالها المقاومة ونواة الجيش الوطني من فتح الحصار الجزئي من الجهة الغربية الجنوبية، الضباب.
عرض المعمري تفاصيل كثيرة لم تكن معروفة للناس، تتعلق بجهد كبير ومثمر بذله من خلال وجوده في عدن، ومن خلال تحركاته الخارجية.
تحدث عن اعتماد وصرف مرتبات 32 الف مقاتل ودمجهم
هذه النقطة وحدها تعني تجاوز مرحلة المقاومة والفصائلية كمرحلة، لدمجها ، ومقدمة ضرورية لصهر كل تلك اللافتات بصورة كاملة بالجيش الوطني.
هناك معالجات مستمرة لملف الجرحى الذين كانوا يتعفنون في المحافظة، ونجح في جلب تمويلات للقطاع للقطاع الصحي، والأهم: متابعة تفعيل الهياكل الأمنية وتوفير عتاد وتجهيزات للشرطة العسكرية، والأمن العام، ومتابعة تجهيز قوات الأمن الخاصة.
بالنظر الى حاجة تعز الفعلية ، يبدو ذلك جزءاً يسيراً، لكنه في الواقع ليس هيناً بالنظر الى ظرف البلاد وطبيعة الحكومة المركزية الإفتراضية.
لا تملك هذه الحكومة جهازا بيروقراطياً وفنياً يشتغل على الملفات، ولا حتى مقرات واضحة، يمكن التعامل معها بواسطة القنوات الإدارية المعروفة .
إن الأمر أصبح أكثر بدائية، وشخصية، وباتت الملاحقات اليومية لأشخاص المسؤولين في عدن هي الطريقة الوحيدة لمعالجة ملفات محافظة مرهقة وتنزف يومياً.
مع ذلك، فإن الفلتان مستمر، وأعمال البلطجة لم تتوقف،وإن خفت الى حد، وهذا يعني أن هناك خطوة ضرورية لتحويل كل تلك التحركات والأمكانيات الى أثر على الأرض: لقاء موسع يشمل كل أقطاب السلطة المحلية والأجهزة الأمنية والعسكرية، والمكونات السياسية والإجتماعية في المحافظة، لوضع النقاط على الحروف وتحديد التزامات الجميع.
لن يستطيع أحد، بصورة منفردة إنجاز شيئ دون تعاون الجميع، والقيام بواجباتهم.
القائد العسكري أو قائد الفصيل، الذي يقود وحدات غير منضبطة تسرح وتمرح بالسلاح في المدينة هو مشكلة كبيرة للمحافظة، والمسؤول الأمني الذي لا توقظه حساسيته دماء الأبرياء التي تراق على هامش عراك البلاطجة، مشكلة أيضاً.
بالتوازي مع ذلك هناك معارك تنشب بين الأطراف السياسية وقفازاتها على هامش كل هذا البؤس، بحثاً عن حصص مكاسب لمحازبيها وقياداتها في المواقع الإدارية.
تكاد كل تلك الفوضى وعصابات البلطجة تتغذى على هذه المعارك وإنصراف الجميع عن مسؤولياتهم تجاه المجتمع.
ميثاق عهد جامع أو إتفاق مبادئ يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، يلتزمون به علنياً لتعز، يمكن أن يكون بداية مخرج طوارئ جيد، لمحافظة طحنتها المعارك الدنكشوتية أكثر من خصومها!
بوسع تعز أن تحول كل هذه المناكفات الى طاقة خلاقة، بحيث تتكامل أدوار الجميع، ويغدو الجميع أشبه بفرقة أوركسترا متناغمة.
إذا اقتضى الأمر متابعة شخصية من الرجل الأول لإنجازمتطلبات المحافظة، فيجب أن يعمل بقية الطاقم من مسؤولين محليين وأمنيين وقادة عسكريين، كمحافظين موجودين،كلاً وفق صلاحيته وموقعه. لماذا تبدو كل هذه الدوائر مفككة ومتنافرة، في مرحلة هي أهم واعقد مرحلة مرتبطة بمستقبل تعز واليمن عموماً : التأسيس؟
على المحافظ تقع مسؤولية ترتيب أولويات المحافظة، وتحديد المسؤوليات، لكن ذلك لن يكون فاعلاً ومؤثراً، من وجهة نظري، دون لقاء موسع يتبناه المحافظ.
يجب أن يقف الجميع أمام كل إشكالات المحافظة بصراحة، للخروج بالتزام واضح من الجميع، في المقام الأول:الأحزاب السياسية…. وحتى قادة الفصائل!
أنا مع مساءلة المحافظ عن كل صغيرة وكبيرة، وعليه أن يكون حاضراً ليقول للجميع ماذا يفعل.
إذا كان الظرف يقتضي وجود المحافظ خارج تعز كطريقة ممكنة لجلب الفائدة لتعز، فليكن، على الأقل، كي لا يصبح مصدراً يومياً لبيانات التنديد والإحباط !
لنمتلك القليل من الإنصاف كي لا نبدو مجتمعاً مغرماً بالجدل الفارغ ، ومثلاً للإنفلات السياسي واللامسؤولية.
شخصياً سأتضامن مع المناضل الجعدي، فقد قرر الرجل الإعتكاف، بعد استنفاد كل الطرق على مايبدو، لكنني في نفس الوقت سأساند جهود المعمري، وسأقف الى جانبه طالما كان مفيداً لتعز، ولم يرتكب خطيئة.