لو كان الفنان محمد عبده “سعودياً” بالفعل، وليس سعودياً وافداً، لما تجرأ بهذه الصفاقة على الإدعاء أنه أكثر إخلاصاً ل”الوطنية السعودية” من الفنانَين طلال مداح وأبوبكر سالم.
عقدة “الوافد” قفزت من قيعان لا وعيه في مرحلة الخرف وكبر السن، مقدراً أنها لحظة مناسبة لفتح فمه أمام السعوديين، وتفريغ العقدة التي عانى منها الكثير.
إلى ذلك، لم يكن محمد عبده ليتحدث بفجاجة هكذا في حياة قامتين كبيرتين هما الفنانان طلال مداح وأبوبكر سالم بلفقيه، إذ كان عليه في زمنهما أن يتلفت يمينا وشمالاً قبل نطق كلمة واحدة في وجودهما.
مخجل هذا الإسفاف في تصريح فنان كبير يسيء إلى نفسه وتاريخه لا إلى قامتين كبيرتين لم يكونا ليقعا في مثل وقعته هذه، ولو امتد بهما العمر إلى ما بعد المئة عام.
والحقيقة أن لدى الفنان محمد عبده ثلاث عقد عميقة، لا واحدة.
الأولى: كما ذكرت، هي عقدة الوافد غير السعودي، اللي يريد أن يثبت أنه أكثر “سعودية” من الوافدين الآخرين الذين تجنّسوا.
والعقدتين، الثانية والثالثة، فنيتان؛ جسّدهما طلال مداح وأبوبكر سالم بلفقيه.
طلال بقي فنان النخبة، الراقي في حضوره، وغير المتلهف لمجاراة الفنانين الآخرين على الجمهور والحضور.
ورغم شهرة محمد عبده وشعبيّته، بقي طلال نموذجا للفن الراقي النخبوي والمتميّز، وعقدة لمحمد عبده كشف عنها في تصريحات فجّة في أرذل العمر.
العقدة الثالثة هي أبوبكر سالم بلفقيه، الفنان والشاعر، والظاهرة الفريدة التي ميّزت الفن اليمني والعربي على مدى أكثر من نصف قرن.
الأقرب إلى الحقيقة أن أبوبكر هو عقدة محمد عبده الأكثر تهديداً لإحساسه بذاته كفنان، رغم أن موهبته وطريقته التي اختارها قد جّنبته الدخول إلى ساحة أوسع للمنافسه يجيدها أبوبكر ويحلق في آفاقها، وأقصد نمط الأغاني والألحان، وتنوعّها الشاسع، مقارنة بالأداء النمطي شبه الثابت عند محمد عبده.
صحيح أن محمد عبده موهوب وعوّض بإحساسه ومثابرته، نسبيا، الفارق الكبير بينه وبين أبوبكر سالم، لكنه بقي على مسافة كبيرة بعد أبوبكر الذي طغى صوته وأغانيه، ومنجم موهبته الفنيه على الجزيرة العربية كلها.
لم تكن الإمكانات السعودية كافية لتعويض هذا الفارق، وهي التي احتشدت خلف وافد أكثر قربا لها من فنان بقامة أبوبكر لا يستطيع أن يكون إلا يمنياً، وإن حمل جواز السعودبة وجنسيتها، وأكنّ لها الاحترام اللائق بمن استضافه ومنحه جنسيّته.
والحقيقة أن محمد عبده لم يكن ليكون له حضوره بدون ذكاء ميّزه في بداياته باختياره الأغاني والألحان اليمنية التراثية، لتكون جواز مروره إلى عالم الفن، وجمهوره في السعودية والخليج واليمن والوطن العربي عموما.
كان مهذباً وغير سخيف كحالته في أرذل العمر، وزمن البجاحة، الذي يحاول المنافسه في أوحاله.
هذا التهذيب، وتقدير تراث اليمن، منحه جواز مرور إلى عالم الفن، وإلى الجمهور اليمني الذي أحبّه ومنحه التقدير الذي تستحقه موهبته، والأهم أنه مكنّه من نيل احترام الفنانين اليمنيين الكبار، وفي مقدمتهم الفنان محمد مرشد ناجي، الذي كان أكثر من تعاون معه وقوّى عوده، وهو لا ينكر ذلك، واعترف به، وأعلنه أكثر من مرة في مراحل سابقة لم يكن بعد قد فقد فيها تهذيبه.
أبوبكر سالم لا مجال للحديث عن نديّة بينه وبين محمد عبده، رغم ما ظهر كأنه كذلك في الثمانينات تحديدا.
تجاوزه أبوبكر بتحليقه في آفاق أوسع للفن والألحان والأداء والإحساس.
وتجاوزه في تأثيره على فنانين خليجيين مثّل لهم القدوة والمثال الملهم، والأستاذ الذي لا يبخل باللحن، ولا يتردد في التوجيه والنصح والتعاون. هذه شخصية أبوبكر الممتلئ في شخصيّته المتميزة، والمتفرد بموهبة استثنائية لا تنضب، ولم يوقفها سوى الشيخوخة والموت.
في فترة هذا الحضور، كانت الشائعات تتردد عن منافسة بين أبوبكر ومحمد عبده، وإذا اعتبرناها مجازاً كذلك، يمكننا القول إن أبوبكر وسِعة أفقه وطغيان شخصيته وحضوره قد قيد هذه المنافسه في إطار فني محترم، يعزز الفن ويتجنّب الوقوع في الثغاءات الساذجة كهذه التي وصل إليها محمد عبده في شيخوخته. شخصية هائلة كشخصية أبوبكر ترسم حدود اللياقة والأدب، وتفرضها على أقرانه ومجايليه، ولا يليق بها إلا هذا. حتى ما قيل عن أن أغنية “عادك إلا صغير” مقصود بها محمد عبده، كان ذلك تأويل الجمهور لها، وليس بالضرورة تقصدا من أبوبكر.
وهي إلى ذلك تبقى واحدة من إبداعات أبوبكر المتميّزة والخالدة.
هل كتبت بدافع الانفعال؟ نعم، ولكنه الانفعال المناسب أمام فنان كشف عن حماقة غير متوقعة في شخصيته.
انفعال يعمل كمحرك لكتابة تحاول تفسير سقطة فنان كبير وفهم أبعادها، لا الانفعال الذي يقدّم نفسه بديلاً ً للفكرة وضداً على التفكير.
انفعال ينطلق من مكانة الفنان محمد عبده لوضع سقطاته في ميزانها.
هذه ليست الأولى، فهو لا يتحدث إلا سقط في عثرات كهذه الأخيرة.
أليس هو من قال إن النبي محمد سعودي الجنسية!
وإذا ما ربطنا هذا “التجنيس” المتأخر 1400 سنة للنبي محمد بجنسية عائلة مالكة فرضت اسمها جنسية على عرب شمال الجزيرة، وإضافة لقب السعودي إلى اسم محمد عبده، نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام عقدة “الوافد”، التي تقفز من كلا الحالتين، أكان هو من أضاف اللقب في الحالة الثانية، أو أطلق عليه من مجتمعه الجديد المنتقل اليه.
هذا الإحساس أضاع على محمد عبده بصيرته، إذ يصنف مراتب الفن وأهميتها بفن غزلي لا قيمة له، وفن وطني يضع صاحبه في المرتبة العليا. السعودية بلد أساسا يعيش أزمة هوية، تؤجل ظهورها الطفرة النفطية.
وفي مستوى أدنى محمد عبده يكون لديه عقدة مركبة، عقدة الوافد، وأزمة السعودية أمام هوية قسرية عنوانها الأسرة المالكة.
وفي حالة ما تجاوزنا ذلك كله، فإن التغنّي بالوطن لم يكن موجودا مطلقا في السعودية كحالة طبيعية وأصيلة وإبداعية، وما ظهر منه ليس سوى حالات متناثرة واستثنائية تؤكد القاعدة ولا تنفيها.
وإذا ما ذهبنا أكثر من ذلك، فإن التغني بالوطن في بلدان ذات هوية تعبّر عن اندماج وتلاحم مجتمعي وإرث وطني تاريخي مثل مصر واليمن، هذا التغني ليس معيار الإيداع، وناموسه الناظم.
الإبداع والإجادة مفردتان تقع محدداتها داخل الفن الغنائي نفسه، ولا تتحددا بالموضوع الذي يطرقه.
أغاني محمد مرشد ناجي وأيوب طارش الوطنية ليست بالقطع بنفس مستوى فنانين آخرين تغنوا بالوطن.
وتغنيهما بالوطن ليس الخلفية الوحيدة لمكانتهما المتميّزة.
هل أم كلثوم تفقد قيمتها لأن الثيمة الأساسية في أغانيها هي الحب وليس التغنّي الصوري بمناسبات وطنية؟
قلنا الحب، وهو “الغزل” بتعبير محمد عبده.
وهو تعبير يحيل إلى عقلية السلفي في اللاوعي، ويستحضر التحرش المحرم بحسب منظومة القيم التي حكمت السعودية، وتحاول التبرؤ منها بالترفيه، وتنظيم الزيارات للفنانين، وبرنامج رامز جلال!
على هذا يكون كل إرث الفن العربي المحترم وفنانيه الكبار منهم والصغار، الكلاسيكيين والمجددين، لا قيمة لهم في ميزان محمد عبده!
قيل قديما في الأمثال العربية: “خير لك أن تصمت فيظن الناس أنك جاهل، من أن تتكلم فتقطع الشك باليقين”.
وكان الصمت خير ما يفعل محمد عبده.
وهو أساسا لا يحتاج الكلام، لأن أغانيه هي من ستتكلم نيابة عنه. لكنه لم يصمت. ويرجم بين الحين والآخر بخلبة طين خاسع ليخدش بها صورته أمام جمهور واسع، له بينهم محبون كثُر أطربتهم أغانيه، وارتبطت بذكرياتهم ووجدانهم، ويؤلمهم أن يروا فنانا محترما مثل محمد عبده وهو يقع في عثرات الكلام، وسقطاته الكاشفة للمستور في القيعان السفلية لأعماقه.