بقلم - حسن اسميك
“هل تعرف ما هو الثور، والدب، والبطة العرجاء؟”
سؤال طرحه عضو مجلس العموم البريطاني هوراس وولبول في رسائله إلى السير هوراس مان عام 1761، في سياق حديثه عن بورصة لندن. ولئن ظلَّ التوصيفان الأولان مستخدمَين حتى يومنا هذا للدلالة على الأسواق الصاعدة Bull Markets والأسواق المتراجعة Bear Markets، إلا أن تعبير “البطة العرجاء” Lame Duck، الذي كان يستخدم للإشارة إلى المتخلّف عن سداد ديونه من سماسرة البورصة، انتقل إلى عالم السياسة الأميركية، ليصف على وجه الخصوص رئيس الولايات المتحدة في الفترة التي تفصل بين الإعلان عن نتائج الانتخابات، ومباشرة الرئيس الجديد مهامه الرسمية في 20 كانون الثاني.
اليوم، وبعدما سارت رياح الانتخابات الأميركية بعكس ما تشتهي سفن الرئيس الحالي دونالد ترامب، وأظهرت نتائجها أن جو بايدن سيكون الرئيس الـ 46 للبلاد، بات تشبيه ترامب بـ”البطة العرجاء” رائجاً كثيراً في مختلف وسائل الإعلام العربية والغربية لدى الحديث عن الأيام المتبقية له في البيت الأبيض. ونظراً إلى أن الرؤساء الأميركيين غالباً ما يحتفظون بقراراتهم الأكثر إثارة للجدل حتى الأسابيع الأخيرة في ولايتهم، هناك توقعات على نطاق واسع بمفاجآت من العيار الثقيل، لاسيما أن كثيراً من قراراته وتصرفاته خلال سنواته الأربع في المكتب البيضاوي كانت إشكالية وأبعد ما تكون عن المألوف.
أختلف مع هذا الرأي وأعتقد بأن آخر “مفاجأة” لترامب هي عدم إزاحة الستار عن أي “مفاجأة”، أقله في الشرق الأوسط، حيث حقق الكثير، وأرسى أسس المزيد من الانجازات، التي قد يقطف بايدن ثمارها إذا أحسن الاستثمار. ومن الأجدى اليوم التفكير بما بعد هذه المرحلة القصيرة: مقاربة كل الملفات في الشرق الأوسط والعالم العربي في أعقاب رحيل ترامب، وكيفية تعامل الرئيس الجديد المنتخب معها.
يُحمّل بعض المحللين والسياسيين ترامب مسؤولية الأوضاع الكارثية التي يمر بها أكثر من بلد في الشرق الأوسط، من دون أن يذكروا عقوداً من التوتر والنزاعات التي شهدتها المنطقة، نتيجة خلافات داخلية وتدخّل خارجي، ومتناسين إرثاً من الأخطاء والسياسات القصيرة النظر والتفكير المشوش الذي مارسته القيادات الأميركية في السابق، جمهورية كانت أم ديموقراطية، حيال المنطقة، وما أدى إليه ذلك من آثار سلبية ما زالت نتائجها ماثلة للعيان في هذا البلد أو ذاك.
لقد عانى ترامب وإدارته من “عدم الاتساق الاستراتيجي” نفسه، وكان غياب الاستراتيجية الشاملة البعيدة المدى مشكلتهم الأساسية في التعامل مع المنطقة. وإذا أراد بايدن أن يكون مختلفاً بحق ويعيد “ترسيخ صدقية الولايات المتحدة، بما يشير إلى العالم بأن كلمة أميركا والتزاماتها الدولية ذات معنى”، كما قال مجلس العلاقات الخارجية، فيجب أن يبدأ من هنا. قد يكون تحقيق النجاح، أياً كان تعريفه، أمراً صعباً للغاية في الشرق الأوسط، ولكنه سيكون مستحيلاً إذا اكتفى الرئيس الجديد بمحاولة إدارة الصراعات التي تنهش المنطقة، بدلاً من العمل الجاد على حلّها.
قد يقول قائل، كفانا مبالغات حول قوة واشنطن “الخارقة”. لكن لدينا ما يكفي من الأدلة الملموسة كي نثبت أن لا شيء يحدث في منطقتنا من دون مباركة واشنطن. وإذا تركنا الماضي الذي يغصّ بأدلّة من هذا النوع، تعالوا نتأمل أوضاع دول عربية عدة لتلمّس مدى فعالية الدور الأميركي.
ففي لبنان، تمخض الضغط الأميركي عن تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الوزارة، وهو قرار لم يلبث أن أخذ يواجه صعوبات جمة حالما خسر ترامب الانتخابات الرئاسية، فقد انفضّ الشركاء المفترضون عن الرئيس المكلف وباتت القوائم المرشحة في خبر كان، الأمر الذي يجبره على التريث في التشكيل حتى يدخل الرئيس الجديد البيت الأبيض. وتنطوي فترة الانتظار هذه على خطر إطاحة الحريري وتكليف رئيس بديل تشكيل الحكومة العتيدة. وثمة تطور آخر في لبنان يسلّط الضوء على دور واشنطن في تدوير الزوايا وفك العقد، فالأرجح أن عجلة مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ستبقى متوقفة في ظل الفراغ الحالي في واشنطن ولن تعاود العمل ما لم ترخي واشنطن بثقلها كي يستأنف الطرفان مباحثاتهما للخروج من المأزق الراهن.
أما في ليبيا الغارقة في الفوضى والانقسامات جراء الصراعات الدموية التي أثارتها قوى إقليمية تسعى الى الهيمنة على البلاد واستغلال مقدراتها، فلن يلتئم شمل الشطرين اللذين تديرهما حكومتان متناقضتان كل التناقض، إلا إذا ضغطت أميركا على الأطراف الليبية للقبول بحل يعيد للبلاد وحدتها ويجبر تركيا وجماعة “الاخوان المسلمين” عموماً على الكف عن العبث بحياة ليبيا والليبيين.
واليمن، بدوره، يدلل على أهمية واشنطن في حسم القضايا المعلقة، فإيران ماضية في تفخيخ البلاد ونسف حياة أبنائها الآمنين من خلال أتباعها الحوثيين. ولن يكون هناك ضوء في نهاية النفق الطويل إلا إذا ضغطت أميركا بكل قوتها على إيران كي تترك اليمن وشأنه.
وسواء تعلق الأمر بالشرق الأوسط أم بغيره، من واجب الرئيس الأميركي تجاه شعبه أن يضع استراتيجية كفيلة بضمان أمنه ورفاهه. ثمة ملفات سيتحتم على الرئيس الجديد أن يتعامل معها، في مقدمها الملف النووي الإيراني الذي يمثل إحدى ركائز استراتيجية كهذه. فهو في طليعة القضايا المتداولة حالياً التي لا يكاد الحديث عن تشابكاتها يتوقف.
في هذا السياق، قال بايدن إنه سيعيد الاتفاق النووي الذي أبرم في عهد أوباما والمعروف رسمياً باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA)، مع إيران، لكن ترامب انسحب منه في مايو (آيار) 2018 وفرض على طهران مجموعة من أشد العقوبات الاقتصادية التي واجهتها على الإطلاق. وأوضح الرئيس المنتخب “إذا عادت إيران إلى الامتثال لالتزاماتها النووية، فسأعاود الدخول في “خطة العمل الشاملة المشتركة” كنقطة انطلاق للعمل جنباً إلى جنب مع حلفائنا في أوروبا والقوى العالمية الأخرى لتمديد القيود النووية التي يفرضها الاتفاق”.
لم يؤد انسحاب أميركا من الاتفاق إلى إنتاج القنبلة النووية من جانب إيران، ولم يُفضِ مقتل قاسم سليماني إلى نشوب حرب في المنطقة. ورغم تهديدات إيران المستمرة لم يتجاوز “الرد” هجوماً صاروخياً على قسم مهجور من قاعدة أميركية في العراق، واستطاعت واشنطن الحفاظ على العقوبات الاقتصادية المتعددة الأطراف، التي تقيدت بها الشركات الأوروبية بشكل كامل.
ليس من المبالغة القول إن طهران مستعدة، إلى حد كبير، للتفاوض بشروط واشنطن، ولو ادعى قادتها غير ذلك. فنظامها، الذي لا يستطيع تثبيت عملته أو حماية شعبه من ويلات جائحة كورونا، يحتاج إلى رفع العقوبات عن كاهله ولو جزئياً، ويدرك أن الطريق إلى الاقتصاد والنظام المالي العالميين يمر عبر واشنطن لا محالة. أي سياسة أميركية تبدد ما حققه نهج الضغط الأقصى على إيران تعد استهتاراً، وتمكيناً لنظامها، وبالتالي إجحافاً بحق العرب الذين تهددهم كما بحق الشعب الإيراني ذاته.
أما الملف الثاني الذي ينتظر بايدن في منطقتنا فهو عملية السلام العربي الإسرائيلي التي شهدت تطورات متسارعة في عهد ترامب، وانقسمت الآراء حولها بين محبّذة ومتحفظة. لكن أياً كان الموقف من هذه القفزات النوعية، من الأكيد أنها تمت بوتيرة غير مسبوقة منذ عقود، إذ مضى نحو ربع قرن على آخر اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل. والحق أن حال الفلسطينيين لم تتبدل في هذه المدة ولم يقتربوا من تحقيق هدفهم في بناء الدولة، بل جرى استخدام قضيتهم مراراً لتبرير تدخلات القوى الإقليمية (كإيران وتركيا) الطامعة في الهيمنة على كل الأجزاء التي تقع في قبضتها من بلاد العرب.
من الضروري الإشارة هنا إلى أن بايدن يعترض على أساليب ترمب في التعاطي مع القضية الإسرائيلية الفلسطينية، ولكن ليس على نتائج هذا التعاطي. فقد رحب بايدن باتفاقيات التطبيع وقال إنه سيدفع المزيد من دول المنطقة للمضي نحو إبرام صفقات مماثلة. بيد أنه أعرب عن معارضته “الأحادية” التي اتسم بها نهج ترامب تجاه إسرائيل والفلسطينيين. هكذا قد يلغي الرئيس الجديد الحظر الذي فرضه سلفه على الدعم الاقتصادي والإنساني للفلسطينيين، ويعيد فتح بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. إلا أنه في الغالب لن يحاول عكس قرارات ترمب بشأن بعض النقاط المفصلية في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، مثل القدس والمستوطنات، وذلك لسببين رئيسين على الأقل: الأول يتمثل في أن إسرائيل تحظى تاريخياً بمعاملة مميزة من قبل أميركا أياً كان رئيسها، أما الثاني فهو أن إلغاء تلك القرارات سيضع الرئيس في مسار تصادمي مع مؤيدي إسرائيل النافذين للغاية في واشنطن.
مِنْ نافِل القول ان كلام بايدن عن إصلاح السياسة الخارجية الأميركية يبعث على التفاؤل، وكان هذا مطلبنا نحن العرب منذ سنوات؛ المهم ألا تقتصر الإصلاحات على نقض الإجراءات التي اتُخذت خلال ولاية ترمب وحده أو تغييرها، فالإصلاح الحقيقي يجب أن يشمل كل سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك خطوات وتدابير تعود إلى ايام أوباما الذي كان بايدن نائبه.
كان ترامب شخصياً، ورغم استهتاره بالتاريخ في معظم الحالات، “حكيماً” بما يكفي لدعم حملة إدارة أوباما ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، والتي قوضت “الخلافة” المزعومة في النهاية. هذا ما يجب على بايدن فعله إزاء الملف الإيراني، وإلا فلن تضطر طهران إلى تقليص الدعم الذي تقدمه لميليشياتها في الخارج وسيستمر وكلاؤها “الفتاكون” في تهديد أمن العراق ولبنان والمنطقة برمتها، وتهديد مصالح الولايات المتحدة فيها أيضاً.
وتقتضي مصلحة الولايات المتحدة أيضاً الاستمرار في دعم حلفائها في الخليج، كالسعودية التي تحث الخطى على طريق الإصلاح وتعمل بدأب على ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية، والإمارات العربية المتحدة التي تواصل ارتقاء سلم النجاح العالمي بثقة وتصميم لتعزز ريادتها الحضارية على المستويين العربي والدولي في مختلف المجالات.
في المقابل، هناك سياسات “ترامبية” تحتاج إلى إعادة نظر جذرية، مثل علاقته مع تركيا، التي تحاول إعادة إحياء أمجادٍ غابرة في لبوس إسلاموي توسعي عنيف، يجعلها لا ترى في الدول العربية إلا “عمقاً استراتيجياً” لها، وفي حوض المتوسط سوى ميدان لنفوذها وكأن استغلاله هو “حق من حقوقها”. وإذا لم يكبح الرئيس الأميركي الجديد المطامع التركية هذه ستستمر حالة “اللاستقرار” وقد تسير الأمور في المنطقة إلى ما لا تحمد عقباه.
ولا ننسى العقوبات الاقتصادية على سورية، والتي تختلف تماماً عن الحالة الإيرانية، فسورية هي جزء من كل عربي سيتلقفها عاجلاً أم آجلاً، وليس لديها بالطبع أطماع توسعية، بل على العكس قد تكون شريكاً فاعلاً في السلام. وعلاوة على ذلك، فإن قرار إعادة سورية إلى الحظيرة العربية سيوجه ضربة قاصمة لمشروع الهيمنة الإيرانية في المنطقة.
يسود المشهد الشرق أوسطي اليوم ترقّب حذر. فهل نحن أمام الهدوء الذي يسبق العاصفة أم أننا نعيش مرحلة ستطول من السكون بعيداً عن الصخب والعنف؟ الإجابة مرهونة بطبيعة ومستوى التغير الذي ستحدثه واشنطن في “القيادة العالمية”.
لقد ورث الرئيس ترامب عن سلفه أوباما، كما ورث الأخير بدوره عمن سبقوه، تركة ثقيلة في الشرق الأوسط. ففي عهد أوباما اندلعت أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، ونشبت الحروب الكبرى في اليمن وليبيا وسورية، واستمرت في العراق، كما وصل تنظيم القاعدة إلى سورية، ورأى النور تنظيم “داعش” الرهيب الذي فاق بوحشيته وإرهابه كل التنظيمات التي ظهرت قبله بما فيها القاعدة نفسها.
في المقابل سيسلم ترامب الرئيسَ المنتخب بايدن منطقة أكثر استقراراً “نسبياً” مما كانت عليه قبل أربع سنوات، وشبكة تحالفات أقوى من تلك التي خلّفها له أوباما. وعلى الرئيس الديموقراطي ألا يبدد هذ الإرث لمجرد الرغبة بحرمان ترامب من أي إنجاز يفخر به أو لقلب كلّ ما حققه رأساً على عقب.
نجاح بايدن في الشرق الأوسط مشروط بالبناء على ما تحقق، أي بقبول “هدايا” الإدارة السابقة في إيران وفي ملف السلام، وفي الوقت نفسه بتفكيك “تركاتها” في أماكن مثل تركيا وسورية. لم تعد المنطقة قادرة على تحمل الملفات المعلقة والمهادنات التي لا طائل منها والاستثمار في ما لا يمكن الاستثمار فيه. الحسم الأميركي ضروري في الحزم أو في الدعم، فهو السبيل الأمثل لتحقيق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ومعها مصالح العرب، وحتى يستعيد الشرق رونقه ومكانته كأرض للتعايش والسلام