بقلم - عبدالله شروح
استقبل الحوثيون أسراهم بطريقة مهيبة. مدّوا تحت أقدامهم بساطاً أحمر اصطفّ على ضفّتيه العساكر بتوقيرٍ جم. ردد أسراهم “الصّرخة” بجذل، موفورين الصحّة والعزم. هذا المشهد استولى كليّاً على اهتمام العديد من الجمهوريين. نظر هؤلاء الجمهوريون بالمقابل إلى مشهد استقبال المختطفين في مطار سيؤون وقالوا: لا دولة هنا، الدولة عند الحوثيين!
مشهد البساط الأحمر أعمى هؤلاء الجمهوريين عن الزنازين الحمراء التي خرج منها مختطفونا بأجسادٍ مهشّمة، شبه معطوبة. مشهد الاصطفاف العسكري في صنعاء أعماهم عن المشاهد السّاحقة لالتقاء مختطفينا بأسرهم، بأمهاتهم وذويهم. لم يلتفتوا كثيراً لتلك المعانقات المحتدمة، المترعة باللهفة والمتخمة باللواعج والدّموع.
لم يتمعّنوا الجلال المهيب للإكليلة الشمّاء أمّ المختطف توفيق المنصوري، لم يرُعهم ذلك الحزن المعتّق في وجهها النّاصع وهي تشكو، شكوى الكبّار، أن مناشداتها لم تصل بعدُ لأولئك الّذين بمقدورهم أن يعيدوا ابنها إليها بعد كلّ هذه السنوات من الحرمان السّاحق!
استعاد الحوثيّون بعض أسراهم، ولا يُستبعد أنّ الكثير منهم قد عادوا إلى الجبهات يكررون ذات الدّأب المجنون، لا يُستبعد أيضاً أن الحوثيين اقتادوا اليوم إلى سجونهم ضعف العدد الّذي أفرجوا عنه بالأمس، ومما لا شك فيه أن الأغلب سيرى في ذلك دليلاً على حنكة الحوثيين وانعدام الحيلة لدى الشرعية، إذا أن الحقيقة أن كثيرين منا باتت معاييرهم مضروبة كليّاً، لم يعودوا قادرين على التزام منظار القيم في نظرتهم للأمور.
جميعنا يدرك أن الشرعية ليست معافاة، أنّها منخورة بالكثير من المشكلات والتشوهات، لكن ذلك يجب أن لا يعمينا عن إدراك الحقيقة الأساسية المتمثلة بأن لا شيء بمقدوره أن يكون أكثر تشوهاً من ميليشيا الخراب والدّمار الحوثيّة.
حين ننطلق من زاوية المنطق المحض نرى أن الخطأ الأساسي في هذا المسألة يكمن في الخلط بين ملفَّي الأسرى والمختطفين، نقول حينها إنّ المختطفين يجب أن يخرجوا من سجون الحوثي بلا شروط، وأن المبادلة يجب أن تكون حصريّة في الأسرى، لكن حين نأتي للواقع، واقع أننا نتحدث هنا عن ميليشيا بلا قيم ولا أخلاق، وأن المجتمع الدولي وأممه المتحدّة لم يقدّموا في هذا الشأن أدنى ضغط وإنما مضوا يشرّعون لهذه الجريمة بلا مواربة، نرى أيّ تعقيدٍ نحن مضطرين لخوضه بفقه الممكنات.
هنا تغدو القيمة قيداً، ويظهر من يلتزمها في منعطفاتٍ كثيرةٍ بمظهر الساذج، لكن في النهاية هي القيم الّتي ما انطلقنا نقاتل منذ البداية إلا من أجل الحفاظ عليها، فإذا ما تساوت أخلاقنا وقيمنا مع أخلاقيات العصابة، أيّ معنىً سيبقى لانتصارنا حين يتحقق؟! إذا لم يعد ثمّة فرق بيننا والميليشيا فما الداعي للاستمرار في مناجزتها وخوض الحرب معها؟!
نحنق على الشرعية كثيراً، ننتقدها بشدة، نجلدها بلا هوادة، لكن ذلك لا ينبغي أن يقودنا للانهزام على المستوى النفسيّ والروحي، لا ينبغي أن يقحمنا في نفق اللا جدوي، لا ينبغي أن يعمينا عن القيمة، هذا إذا ما كنّا جمهوريين بحق، مناضلين بحق.
في هذه الصفقة ثمّة انتصار كبير للشرعية، للقيمة، للجمهورية، انتصار أخلاقي لا يعمى عنه إلا من يعاني خللاً ينبغي عليه تداركه سريعاً. إلى الآن، ومنذ بداية الحرب، لم يحقق الحوثي أيّاً مما يدعوها البعض مكاسب إلا لأنّه لم يعبأ أبداً بأية قيمة إنسانية، لم يعنه شيء سوى تحقيق أهدافه لتكبيل المجتمع اليمني وإذلاله، هذا هو ما جعل التعامل معه محفوف بالكثير من التنازلات، تنازلات هي في حد ذاتها، من المنظور القيمي، انتصارات كبيرة.
الآن لا يزال هناك في زنازين الحوثي، الحمراء بدماء المختطفين اليمنيين، الآلاف، ولن يفرج عنهم الحوثي إلا بهذه الطريقة، وذلك إن لم يتحقق نصر سريع وحاسم على هذه العصابة.
إنّ كلّ هذه التداخلات التي بوسعنا أن نظلّ نتحدث عنها صفحات طوال، ليس هنالك من بمقدوره أن يتخطّاها ويحلّها جذريّاً سوى جيشنا الوطنيّ ومقاومتنا الشعبية، هذه هي النتيجة التي يجب أن نعيها كحقيقة وأن نسعى لترسيخها كمفهوم واقعيّ لا يقبل الدّحض.
المعركة هي من ستحسم هذا السجال، ولا شيء سواها. ليس لنا لتجاوز كل هذه التشوهات سوى أن نصطف مع جيشنا الوطني ومقاومتنا الشعبية للخروج جميعاً من هذا المأزق الّذي لا يكف يستنزفنا كلّ يوم، يستنزف كرامتنا ووعينا وشعورنا بإنسانيتنا، يستنزف فينا كلّ جميلٍ وسامٍ حتى معاييرنا وموازيننا للأمور. وهنا علينا أن نوجه أعظم تحيّة لجيشنا الوطنيّ العظيم، ولمقاومتنا الشعبية الباسلة، فلولاهم لما خرج من خرج من المختطفين، ولكنّا نحن جميعاً مختطفين لدى هذه الميليشيا المُعدَمة القيم والأخلاق.
__