بقلم - مصطفى نعمان
بداية أكرر أنني لم أكن مؤمناً- وكثيرون غيري- بأن اتفاق الرياض الذي وقعه ممثل الحكومة الشرعية مع ممثل المجلس الانتقالي، في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 قابل للتنفيذ. ولم يكن مرد ذلك مثالية بنوده ولكن ابتعادها عن الواقعية. وهو ما دفع إلى إعادة النظر في أولوياته لصعوبة تنفيذها كما جاءت في الاتفاق، فجرى ابتكار آلية التسريع. وواقع الأمر أن الطرفين الموقعين في نوفمبر من العام المنصرم غير راغبين حقاً في شراكة فاعلة. فلا أهدافهما مشتركة ولا هموم المواطنين تشغل بالهما. وكل ما في الأمر هو مشهد صراع ممل حول تقاسم الحقائب الوزارية.
عند الحديث عن طرفي الاتفاق، يغيب عن البعض أن تعقيداً جديداً أُضيف إلى العملية السياسية، المتعثرة أصلاً، جعل الحكومة كالبطة العرجاء حين تمت إقالتها وأصبحت مكلفة بـ “تصريف أعمال”، فزاد عجزها وتعاظم فشلها في تقديم أي فعل إيجابي للمواطنين. وزاد من العجز الفاضح للشرعية غياب أي دور لمجلس النواب، الذي لم يتمكن من الانعقاد منذ جلسة يتيمة في سيئون (13 أبريل/ نيسان 2019)، ويشكك الاتحاد البرلماني الدولي في اكتمال نصابها الدستوري. وكان أحد أغراضها انتخاب هيئة رئاسة جديدة لمدة عامين لتنتزع قانونية هيئة الرئاسة في صنعاء، وتثبت قدرتها وجديتها في العمل من داخل البلاد، لكن المهرجان الخطابي المكلف انتهى بعودة الأعضاء إلى أسرهم الموزعة على عواصم شتى، مع تأكيدات متكررة ذهبت أدراج الرياح بلقاء جديد. ففقد أهميته السياسية والمجتمعية، ولم يعد من تبقى من الناخبين على قيد الحياة يعولون عليه أو يذكرونه إلا حين تصدر بيانات تأييد ومنشورات تهنئة وعزاء.
تسبب هذا الشتات المؤسسي في تشرذم “الشرعية” بين كيانات ترفع شعارات “استعادة الدولة”، لكنها في الواقع تتنازع على ما تبقى من نفوذ السلطة المقيمة في الخارج، التي لا تجد موقعاً ثابتاً في الأرض على امتداد الـ85 في المئة (التي لم تعد تحت سيطرة الحوثيين منذ منتصف 2015)، وفشلت “الحكومة الشرعية” في تأمين أي من السلطات المناطة بها دستورياً، ولم تتمكن من تثبيت أوضاع القائمين عليها.
انعكس الأداء الهزيل لـ”الشرعية” على المكونات السياسية التي تعمل داخلها، على الرغم من محاولة تجميع مواقفها داخل إطار واحد أسموه “التحالف الوطني للأحزاب والقوى السياسية اليمنية”. إلا أن ذلك لم يكن كافياً كي تصل إلى الغاية الحقيقية التي من أجلها تم إنشاؤه. فلم يتمكن من الضغط لصنع قرار واحد، واكتفى بإصدار بيانات يتم التوافق عليها أحياناً عبر الاتصالات الشخصية ورسائل “الواتسآب”. وعصفت الخلافات في الكيان الناشئ، لتباين المواقف تجاه الأحداث التي تجرى في تعز، وتلك التي أجريت في عدن على وجه الخصوص وأدت إلى إخراج الحكومة منها في فبراير (شباط) 2020 بعد عودتها لأيام قليلة إثر التوقيع على اتفاق الرياض، ثم منعها من العودة مرة أخرى في أبريل 2020، بعد انتظار طويل في مطار الرياض. وهو غياب استمر حتى هذه اللحظة.
الطرف الثاني من الاتفاق هو المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يمثل فئة من أبناء المحافظات الجنوبية وتم الاعتراف بمشروعيته إقليمياً ودولياً كطرف في الشرعية على الرغم من أن أهدافه المعلنة ووثائقه المنشورة تناقض توجهات الطرف الأول الشريك في الاتفاق، وهو وضع شاذ قبله الطرفان بغير قناعة وإنما بضغط سعودي أراد عدم إعلان فشل توحيد الجبهة الداخلية المناوئة للحوثيين وليسهل عودة الحكومة إلى عدن لممارسة نشاطها.
كانت بذرة الخلاف ماثلة بين الطرفين الموقعين وتفاصيل أسبابه معروفة، وهي مزيج من العام والخاص والمناطقي والسياسي الضيق. ولم تتمكن الجهود السعودية من جمع الأطراف في قاعة واحدة للنقاش والبحث. بل ما زالت المفاوضات تجرى عبر الوسطاء ومحصورة بين نجل الرئيس ومدير مكتبه من جهة، وبين ممثلي المجلس الانتقالي من جهة أخرى، أي أنها تجرى بخطوط جنوبية- جنوبية واضحة، ولا يعلم مستشارو الرئيس في فندق الريتز الجميل في الرياض عن خفاياها وما يدور فيها، فصاروا يمضون أوقاتهم الطويلة في ردهاته الواسعة أو في لقاءات لا طائل من ورائها غير استنزاف الوقت.
إن أشد العراقيل التي تواجه تنفيذ اتفاق الرياض هي قضية التمثيل “الجنوبي” والنزاع في شأن مَن يمتلك أحقيته. وهو صراع ليس جديداً، ولا تمكن معالجته بالإنكار والنفي. ولولا هذا الصراع الذي عطّل محاولات جمع الأطراف، لكان من السهل الخروج من المأزق الجنوبي- الجنوبي. من هنا، فإن الأولوية القصوى هي اتفاق “الجنوبيين” حول أهدافهم وقضيتهم التي تحولت إلى ساحة للمزايدات والابتزاز. والبعض يطرح أن “الشماليين” أيضاً ليسوا متوافقين في شأن تمثيلهم، وهو طرح فيه تعسف، لأن “الشماليين” في “الشرعية” فقدوا حيويتهم ولا يعترضون مطلقاً على أي قرار أو موقف يتخذه ويقتنع به الرئيس عبد ربه منصور هادي، بل إنهم تنازلوا عن أصواتهم مقابل الحصول على رضاه عنهم.
أنا مقتنع أن اتفاق الرياض لا يمكن تنفيذه ولا تسريعه، ليس بسبب النصوص، إنما لوجود قضايا متراكمة من زمن طويل وغير مرتبطة بالتنفيذ وتتعلق بعدم الجدية. إذ يعتبر كل طرف أن الالتزام به يعني تلقائياً الهبوط من السقف المرتفع جداً الذي وضعه كل منهما أمام جمهوره. والانتقالي أقل قدرة على تقديم تنازلات أكثر مما فعل حين قبل الاعتراف بأن يصبح طرفاً “يمنياً” يلتزم بالدستور القائم ويحترمه ووافق على الابتعاد عن الشطحات التي كانت تصف الشمال بـ”سلطة احتلال”. وفي الوقت نفسه، فإن “الشرعية” قد غضت النظر عن اعتبار الانتقالي متمرداً وانقلابياً، ورضيت به شريكاً في الحكومة المقبلة.
من الواضح أن جوهر الخلاف في شأن الاتفاق سيظل غير محسوم، ولا يمكن تجاوزه قبل أن تتم معالجة التمثيل الجنوبي. لذا، فإن كل الجهود يجب أن تتجه إلى تسوية الملعب “الجنوبي”، وتعريف اللاعبين الحقيقيين فيه، والتعامل مع الأمر الواقع بعيداً من الهرج الذي شاهدناه هناك خلال الفترات الماضية عبر مزاعم الشعبية الزائفة المدعومة بمسيرات ممولة وحشود تنتهي حماستها فور انتهاء الغرض من تجميعها. كذلك، يجب إعادة التأكيد أن حقيقة الصراع العالق داخل الريتز لا يدور في أي حال من أجل أهداف وطنية جامعة، بل لأغراض سياسية بعيدة كل البعد من حقيقة هموم الناس وقلقهم وحاجتهم إلى إنهاء الحرب فوراً والاستقرار والأمن والعيش الكريم.