بقلم - محمد جميح
منذ فترة طويلة وأنا أحاول أن استقصي أبعاد الشخصية المحمدية، أن استكنه أعماقها، أن أصل إلى أغوار تلك الشخصية المدهشة، وفي كل مرة أقف مشدوهاً عاجزاً على تخومها، وكلما قلت إنني التحمت بها، رأيت وجهه ضاحكاً يقول ما زلت على السطح.
محمد شخصية عجيبة، تغرينا بالالتحام بها، حتى إذا ما كنا قاب قوسين أو أدنى من استكناهها، حتى إذا ما وقفنا على تخوم طاقتها الروحية الهائلة، أخذنا الطوفان بعيداً في تضاريسها النفسية العميقة، وخريطتها الذهنية الواسعة، وإذا بنا بعد كل المحاولات أطفال صغار نلهو على شاطئ البحر الذي لا قعر له، بحر زاخر بالمواقف والأقوال والأفعال والأفكار، والطاقة الروحية، التي أعادت رسم روح العالم، بطريقة مدهشة.
في الطريق إلى محمد يلتوي الطريق كثعبان صحراوي يصعد ويهبط ويلتف بين الحَرَّات الحرشاء والثَّنِيَّات الملتوية والقفار الممتدة، ليصل إلى «يثرب» التي سيسميها النبي في ما بعد «المدينة»، في إشارة بالغة إلى ميله الكبير لحياة التمدن، ونزوعه التام إلى قيم الحداثة والانبعاث. انتهت الرحلة، وصلنا إلى محمد، وهأنذا أقف أمام هيبة رجل «غيّر مجرى التاريخ»، وتلك عبارة عندما تُطلق، فإنها تحتمل الكثير من المجاز إلا في حق محمد.
الذين يغيرون مجرى التاريخ أناس بسطاء في تكوينهم النفسي، لكنها البساطة التي تحوي كمالات لا تنتهي، هي بداية المشوار الموغل في عمق الأفكار والتحولات الكبرى. هكذا كان هذا الرجل العربي العظيم، بسيطاً في عمق، وقريباً في بعد، وسهلاً في امتناع عظيم. رجل ينام على الحصيرة التي أثرت في جنبه، يأكل القليل من الطعام، يلبس البسيط من اللباس، يخرج إلى الناس، ويحدثهم في الأسواق، ويمازحهم في المنتديات العامة، ويلقى مختلف الشرائح من دون حراس، ويستقبلهم من دون بوابين، يجالس العجوز المسنة، ويمرح مع الأطفال الصغار، ويبتسم للخصم في رجولة وإباء.
هذا الراقد أمامي الآن هو الذي يشغل اليوم العالم كله: محمد فعل، محمد ترك، محمد قال، محمد ذهب، محمد عاد، محمد غزا، محمد حارب، محمد دافع، محمد يحب، محمد يكره، محمد مع المرأة، محمد ضد المرأة، محمد مع الإرهاب، محمد ضد الإرهاب، في جدل انعقد حول شخصيته، بشكل لا يزال معه هذا الرجل العظيم، والنبي الكريم «يملأ الدنيا ويشغل الناس». والعالم إزاءه بين متشوق لعودته، ومتوجس من رجوعه، بين مؤمن به «رسول سلام»، ومعتقد بأنه «زعيم حرب»، وهو في كل حالاته يفصح عن شخصية قوية تمضي لما تؤمن به في يقين من يرى بعينيه المستقبل، فيقول: «والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». وأنت تخرج من إحدى البنايات المحيطة بمرقده، تطأ أرضاً مشى عليها، وحمتها سيوفه، أرضاً لم يفكر أي من الجبابرة في غزوها، وعندما فكر أحدهم مرة أن يتوغل في بلاد العرب للوصول إليها، وقتْل محمد أو أسره، نهض إليه محمد بقوة واقتدار، ولاقاه عند تخوم الشام، في تكتيك عسكري، اعتمد على المباغتة والتحدي في آن، الأمر الذي جعل العدو يولي الأدبار.
قال لي مرة صديق أيرلندي إن محمداً زعيم الإرهاب في العالم، والأب المؤسس لمدرسة «أبوبكر البغدادي». قلت له: قبل عقود من الزمن، كان الأيرلنديون «دواعش»، وكان الفيتناميون إرهابيين، لدى القوى الإمبريالية، لا لشيء إلا لأن كلاً من الأيرلنديين والفيتناميين كانوا يدافعون عن أرضهم وثقافتهم وانتماءاتهم الدينية والتاريخية والحضارية. هل كانت حركات التحرر في العالم إرهابية؟ هل أنت إرهابي؟ وانتهى الحوار ليفتح المدى للتفكير بطريقة مختلفة حول محمد: الثائر النبيل، والمقاتل الرحيم، والفارس الكريم، والنبي العظيم.
لا شك أن الكثيرين اليوم ينفرون من صورة محمد، وهو يحمل السيف، صورة «النبي المحارب» لا تروق لهم. لكن صور «الأنبياء المقاتلين» تملأ «العهد القديم». هل قرأتم عن «رب الجنود»، في التوراة والأسفار؟ أما محمد فما جاء لإعادة تركيب العالم المادي، ولكنه قدم لإعادة رسم خريطته الفكرية، وإعادة تشكيل تصوراته الروحية.
كان محارباً في سبيل الحرية، مناضلاً في سبيل السلام، وثائراً في وجه مراكز القوى التقليدية العالمية، ومصلحاً عظيماً، وفيلسوفاً رائدا، ومفكراً كبيراً، ونبياً من الصالحين. كان سيفه في يده لكنه ما اعتدى، ولا ظلم، ولا بدأ هو الحرب في تاريخه كله. كان شعاره قبيل أية معركة أن يدعو عدوه إلى الصلح، ويوم الحديبية كان سيفه في يده، وكان في قلبه نزوع عظيم للسلام، وكان وهو «يلوح» بسيفه لخصومه إنما «يؤشر» لهم على خطورة الحرب، ونتائجها الكارثية، وكان يقول عن أعدائه والسيوف في الأكف: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله (حقن الدماء) إلا أعطيتهم إياها». لا تنخدعوا بصورة السيف في يد محمد، حدِّقوا في روحه ستجدون السلام والرحمة، وما صورة السيف في اليد، إلا لحماية السلم والأمن الدوليين في عهده. سيفه كان للردع بينما رغبته الحقيقية كانت في السلام.
سار هذا الرجل باقتدار عجيب في اكتمالاته من «مكة الاستضعاف» إلى «مدينة القوة»، وهو في الحالين لم يتغير، كان «شامخاً» في مكة أمام الجبابرة، وكان «ليناً» في المدينة أمام الضعفاء، وتلك هي الشخصية العظيمة، التي لا تنكسر أمام القوة المادية عند الافتقار إليها، ولا تغتر بها عند امتلاكها، تلك كانت شخصيته، وهذا كان طريقه، الطريق الذي اكتشفه كثيرون بعده، منهم المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا، وصلاح الدين الأيوبي، وعمر المختار، الطريق الذي وقف عليها غوته، وتعرض له تولستوي، وأدهش ابن رشد وتوما الإكويني وجمال الدين الأفغاني، والكثيرين على مر التاريخ.
جاءت قريش إلى محمد يوماً لتتوجه ملكاً على العرب، لكنه رفض ملك الأجساد ليملك في ما بعد القلوب والأرواح، رفض ملك العرب ليفوضه شعب مؤمن، من دون إكراه من «رجال أمن»، أو ترهيب من «أجهزة مخابرات»، ليمتد هذا الشعب في ما بعد من حدود الصين إلى تخوم فرنسا. كان جيشه قوة منطقه، وكانت شُرطته نباهة روحه، وكان نظامه إيمانه العميق بقيم الحق والعدل والحرية والمساواة، وكانت «بيعته» محبة شعبه له، حيث نقله في سنوات معدودة إلى مصاف الشعوب الحرة التي تحمل رسائل عالمية.
أنصح كل من يقرؤون تاريخ محمد النبي أن يقتربوا من تضاريسه النفسية، أن يلتحموا بأشواقه الروحية، فهو واحد من الرجال القلائل في التاريخ، الذين لا يمكن أن نفهمهم من خلال السرد التاريخي، محمد رجل آخر لا نفهمه إلا إذا استلهمنا شخصيته، إذا ذهبنا إليه وزرناه، إلا إذا مشينا على آثاره، وذهبنا إلى حيث ذهب، وسرنا حيث سار في بادية بلاد العرب. إنك لا يمكن أن تتشبه بمحمد إذا اكتفيت بلبس جبته وعمامته، لا بد من أن تحاول استلهام روحه بدلاً من التمظهر بلباسه، وتقليد هيئته، أو طريقة مشيه، أو تناول الطعام الذي كان يتناوله. تأملوا روح محمد لا جسده، أخلاقه لا عمامته، استكنهوا أغوار نفسه، لا ألوان ثيابه، فهناك في عمق روحه تكمن النبوة، حيث لا تجدون في العمامة والجبة غير محمد البشر العادي، «ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة»، لا تحاولوا «استنساخ» «تفاصيل» محمد اليوم، ولكن انظروا إلى «مجملاته»، دققوا كثيراً في «أحكامه»، ولكن تمعنوا أكثر في «مقاصده».
هذا رجل استثنائي، لا يمكن اختصاره في جبته، أو حشر تاريخه بين دفتي كتاب عن سيرته. كما لا يمكننا أن نقيم دين محمد وفكره وفلسفته العميقة من خلال معايير تؤخذ من سياقات غير سياقاته، كأن نحاكم «شريعة محمد» وفقاً لاتفاقيات جنيف لحقوق الإنسان، أو أن نقيّم دينه وفقاً لمبادئ جون لوك، هذا خلل كبير، وجهل فاضح.
وأنا اقترب من الضريح، شعرت أن محمداً يسمعني، يراني، يشعر بي، وأنني اجتاز الحديد والرخام، وتراب الضريح لالتحم بروحه الخالدة، وشخصيته الفريدة. قلت له «السلام عليك يا رسول الله»، فوقف التاريخ أمامي ممتداً من تخوم المكان إلى مشارف الأزلية البعيدة، وبدا لي محمد في لوحة جدارية رائعة، وحوله جموع من الناس يطعهم الطعام، ويقرئهم السلام، ويقودهم في رحلة الروح إلى الله، وشعرت كأنه ألقى عليّ السلام.
ما أروع «جدارية محمد» المنتصبة أمامي الآن على «حائط الروح»، والممتدة من جزر اليابان إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة، ومن سواحل اسكندنافيا، إلى طريق رأس الرجاء الصالح. جدارية فخمة رائعة، حاول الكثيرون خربشتها ببعض الرتوش، لكنها في كل مرة تظهر رغم الرتوش والخبرشات أجمل رونقاً، وأكثر عمقاً، وأصفى ابتساما. غافلت «المطوع» الواقف الذي منع التصوير عند ضريح محمد، وأخذت تلفوني، وأدخلت بعض الضريح داخل الإطار وأخذت «سيلفي مع النبي»، ذكرى لزيارة رائعة. ليعذرني «المطوع» في مخالفة فتواه، فللعشق قانونه الخاص، الذي يجيز أخذ «السيلفي» مع الحبيب دون إذن من «قيم» الضريح.
كان لدينا خطيب بدوي يحب النبي وكان يقول عنه: «أنا أشهد أنه من حمران العيون».
وأنا -كذلك-أشهد أنه «من حمران العيون» وأشهد أنه رسول الله.
إلى اللقاء يا محمد في زيارة مقبلة…
وأرجو أن تتقبل تحياتي وقبلاتي وأشواقي…
وسلام الله عليك فوق التراب وتحته.