بقلم - محمد اللطيفي
تبدأ الهُوية؛ أي هُوية، بالإتكاء على أوهام تسوق نفسها على كونها حقائق، الوهم الأول يقدم الهُوية على كونها عقيدة راسخة لا تقبل الجدل أو الشك، ويجب بذل الروح من أجل الدفاع عنها، وإراقة دم كل معارض لها، والوهم الثاني يؤكد على وجود انتماء واحد رابط لوحدة الهُوية، لكن سرعان ما تفصح حقائق الحياة السياسية القائمة على الصراع، إلى أن أعضاء أي هُوية لديهم العديد من الانتماءات، وكل انتماء يعتقد أنه هو العقيدة الصحيحة، لتصبح النتيجة صراع إرادات داخل الهُوية الواحدة، التي تتحول بمرور الزمن إلى هُوية قاتلة ليس فقط لمن يعارضها، بل حتى لمن ينتمي إليها.
في كتابه “الهٌويات القاتلة”، يصل الكاتب أمين معلوف، إلى استنتاج مهم، لفهم طبيعة الحركات الأيدلوجية المتطرفة، والتي تعطي نفسها قداسة وأفكارها هُوية خاصة، وتمنح مخالفيها صفة المروق والخيانة، ويشير ذلك الاستنتاج إلى خطر “تأكيد الهُوية” أو بمعنى آخر تقديس الهوية أو التعصب لها، وكيف يمكن تحويل الهُوية إلى “أداة حرب” ضد المجتمع، كنتيجة لتحول المتعصبين لتلك الهويات إلى “قتلة أو أنصار قتلة”.
قدم معلوف في كتابه، شرحا لمدى خطر تلك الهُويات والتي سماها بـ”القاتلة”، على المجتمع اللبناني، وبتقديري، فان ما فسره معلوف عن تحول الهُويات الى أداة حرب، وأعضاءها الى قتلة أو أنصار للقتلة، يعد شرحا تحليليا موافقا للحال الذي وصل إليه الوضع في اليمن، من حيث تحول الهُويات الطارئة؛ والحديثة نسبيا، إلى مشاريع للقتل داخل مدن الجنوب والشمال.
فحركة “الشباب المؤمن” التي نشأت كحركة سلمية، سرعان ما تحولت إلى حركة مسلحة ضد نظام صالح للثأر من مقتل زعيمها المؤسس، لتكبر على قدم إيران وساق الخليج وأعين الغرب، كجماعة سلالية تؤمن بالحق الإلهي بالحكم، وتبني هُويتها الخاصة بها، كما أن “الحراك الجنوبي” تحول من نضال سلمي لنيل الحقوق التي اعتدى عليها نظام المخلوع صالح، إلى حراك مسلح لنيل مطلب الانفصال القسري عن الشمال، ثم أخيرا إلى مليشيا متمردة على الشرعية والإقليم والمجتمع الدولي، فضلا عن كونها كيان تابع لدولة إقليمية، معادية لليمن؛ الإمارات.
لقد استحوذت النخب الجنوبية على القرار السياسي للحراك الجنوبي السلمي، وحولت المطالب العادلة لهذا الحراك إلى مطامع آنية لا علاقة لها بالقضية الجنوبية، وقامت بإفراغ تلك القضية من محتواها، بل ووقفت عائقا منيعا أمام فرصتين ثمينتين منحتا القضية الجنوبية العدالة والإنصاف، كانت الأولى في ثورة (فبراير 2011) والتي أعطت للجنوب التحاما شعبيا متجاوزا لكل حالات التشطير، حيث اتحدت ساحات كل المحافظات اليمنية خلف مطالب الحراك السلمي وضد نظام صالح القمعي، وكانت الفرصة الثانية خلال مؤتمر الحوار الوطني (2013) والذي قنّن رسميا في مواد دستورية عدالة القضية الجنوبية، وحمى مستقبل مشروعيتها في دستور جديد، وخلق لها أفقا واضحا للحل في إطار سياسي بعيد عن الوحدة الاندماجية أو الانفصال القسري، وهو الحل المتمثل في اليمن الفيدرالي الاتحادي، الذي ضمن العدالة في توزيع الثروات، والتساوي في إدارة الأقاليم اليمنية لمدة زمنية معقولة ومتفق عليها.
لكن “هُوية الوحدة الطائفية” المتمثلة بمليشيا الحوثي، و”هُوية الانفصال المناطقي” المتمثل بنخب الحراك المسلح، اتحدتا معا ضد الهُوية الوطنية الجامعة؛ “اليمن الاتحادي”، حيث سيطرت “الهُوية الطائفية” على أغلب مناطق المحافظات الشمالية، بينما اتجهت “الهُوية المناطقية” نحو تقليد الأولى في محاولة السيطرة على مناطق المحافظات الجنوبية.
لقد أدت ثنائية (تعارض أجندة التحالف السعودي الإماراتي مع أهداف تدخله المعلن، وتخاذل المجتمع الدولي) إلى إضعاف سلطة الحكومة الشرعية، التي أضحت مع تلك الثنائية، ثلاثية معضلة، مثلت الفرصة لتحكم مليشيا الحوثي في الجغرافيا السياسية لصنعاء ومحيطها الشمالي، ولتحكم مليشيا الانتقالي في الجغرافيا السياسية لعدن ومحيطها الجنوبي.
ورغم أن الحوثي؛ بهُويته الطائفية” نجح نسبيا بالتحكم بالخارطة الجغرافية للمناطق الشمالية الواقعة تحت سيطرته، إلا أن الانتقالي؛ بهُويته المناطقية” فشل أصلا في السيطرة على أغلب مناطق الجنوب، كما أنه لم ينجح في إدارة المناطق التي أعلن السيطرة عليها؛ مثل عدن، ولم يمتلك القدرة على كسب المحيط الاجتماعي الجنوبي فيها.
الهويات القاتلة في اليمن؛ الحوثية والانتقالية كنموذج، بدأت بالإيمان بواحدية الانتماء، وتكشفت عن حقائق على الأرض، تصادم مثالية الإيمان الزائف، وحولت الجنود المؤمنين بالعقيدة؛ السلالية في صنعاء والانفصالية في عدن، إلى قسمين، قتلة وأنصار قتلة، وتحولت المدن اليمنية إلى مناطق منكوبة بالأمراض والأوبئة، ومقابر جماعية يحوم الموت في شوارعها.
ومع أنها نجحت في فرض سلطتها القمعية في مناطق سيطرتها، إلا أن الهُوية الحوثية، لم تنجح؛ رغم بعدها الطائفي، في تطييف صراعها مع الشرعية، أو دمج هُويتها السلالية داخل عمق المجتمع، فضلا عن كونها لم تستطيع تبيض سمعتها المشوهة لدى اليمنيين، والأمر يسري على الهُوية الانفصالية، التي فشلت بشكل ذريع في تكوين إجماع شعبي جنوبي حولها، أو تقديم نفسها ككيان سياسي.
ما حدث، هو أن الحوثي، لم ينجح في تحقيق هدفه الكبير؛ حكم اليمن عبر الوحدة القسرية المبنية على الهُوية الطائفية، وانتهى عند كونه “أداة حرب إيرانية”، في الوقت الذي لم يحقق المجلس الانتقالي هدفه الكبير؛ حكم الجنوب كدولة مستقلة، عبر الانفصال القسري المبني على الهُوية المناطقية، كما أن الانتقالي الجنوبي، لم يبارح مكانه الذي نشأ منه، مليشيات متمردة، وعميلة، أضحت تنادي من أبوظبي بالإدارة الذاتية، بدل دولة الجنوب الحرة.
ما يمكن تأكيده، أن الهُويات القاتلة في اليمن، نجحت في قتل مشاريعها الكبرى، ولم تفلح في وأد حاجة اليمنيين إلى الهُوية اليمنية الجامعة، الهُوية الوطنية التي تتعامل مع أعضائها كمواطنين متساويين في الحقوق والسيادة والسياسة، عكسا للهويتين (السلالية والمناطقية) اللتين تعاملتا مع أعضائها على كونهم قتلة أو أنصار للقتلة، ومع اليمن كساحة لتصفية الحسابات الخارجية.
*نقلاُ عن “المصدر أونلاين”